تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٢٧
على مذهب البصريين في أن: بئس ونعم، فعلان جامدان، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما، وأن المخصوص بالذم، إن تقدم، فهو مبتدأ، وإن تأخر فكذلك، هذا مذهب سيبويه. وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدم، والتقدير: ولبئس المهاد جهنم. أو: هي، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذم إذا تأخر كان خبر مبتد محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها، إذ ليس لها موضع من الإعراب، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها، فصارت مرتبطة غير مرتبطة، وذلك لا يجوز.
وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدم، وأنت لا ترى فرقا بين قولك: زيد نعم الرجل، ونعم الرجل زيد، كما لا تجد فرقا بين: زيد قام أبوه، وبين: قام أبو زيد، وحسن حذف المخصوص بالذم هنا كون المهاد وقع فاصلة، وكثيرا ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله: * (فنعم المولى ونعم النصير) * * (ولبئس * مثوى المتكبرين) * وجعل ما أعد لهم مهادا على سبيل الهزء بهم، إذ المهاد: هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم، ومثله قول الشاعر:
* وخيل قد دلفت لها بخيل * تحية بينهم ضرب وجيع * أي: القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار.
* (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله) * قيل المراد: بمن، غير معين، بل. هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد، أو صبر على دين، أو كلمة حق عند جائر، أو حمية لله، أو ذب عن شرعه، أو ما أشبه هذا.
وقيل: هي في معين، فقيل في: الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى مكة ليحطا خبيبا من خشيته، وقيل: في صهيب الرومي خرج مهاجرا فلحقته قريش، فنشل كنانته، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره، وقالوا: لا نتركل حتى تدلنا على مالك، فدلهم على موضعه، فرجعوا عنه، وقيل: عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجرا، وقيل: في علي حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الحسن: نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول: قل: لا إله إلا الله، فلا يقول، فيقول: والله لأشرين، فيقاتل حتى يقتل. وقال ابن عباس: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: في صهيب، وأبي ذر، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب، فخرج مهاجرا. وقيل: في المهاجرين والأنصباء، وذكر المفسرون غير هذا، وقصصا طويلا في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية.
والذي ينبغي أن يقال: إنه تعالى لما ذكر * (ومن الناس من يعجبك قوله) * وكان عاما في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر، ناسب أن يذكر قسيمه عاما من: يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان، فكذلك المنافق مدار عن نفسه بالكذب والرياء، وحلاوة المنطق، وهذا باذل نفسه لله ولمرضاته.
وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين، ويكون
(١٢٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131 132 ... » »»