تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٢ - الصفحة ١٢٦
يريد بطيء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * انتهى كلامه.
وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى، بخلاف غيره، فإنه قد يعر، وعنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان، وبالنسبة إلى غيره ضدان، وظاهر الفساد يعم كل فساد في ارض أو مال أو دين، وقد استدل عطاء بقوله: * (والله لا يحب الفساد) * على منع شق الإنسان ثوبه. وقال ابن عباس: الفساد هنا الخراب.
* (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) * تحتمل أيضا هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض) * و: ما، الذي أقيم مقام الفاعل، فأغنى عن ذكره هنا، و: أخذته العزة، احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ لها كما يأخذ الشيء باليد.
قال الزمخشري: من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه، وألزمته إياه، أي: حملته العزة التي فيه، وحمية الجاهلية، على الإثم الذي ينهي عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلى عنه ضررا ولجاجا، أو على رد قول الواعظ. انتهى كلامه.
فالباء، على كلامه للتعدية، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم، نحو: * (لذهب بسمعهم وأبصارهم) * أي: لأذهب سمعهم، وندرت التعدية بالباء في المتعدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي أصككت الحجر الحجر، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة، أي: أخذته مصحوبا بالإثم، أو مصحوبة بالإثم، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل، ويحتمل أن تكون سببية، والمعنى: أن إثمه السابق كان سببا لأخذ العزة له، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى، فتكون الباء هنا: كمن، في قول الشاعر:
* أخذته عزة من جهله * فتولى مغضبا فعل الضجر * وعلى أن تكون: الباء، سببية فسره الحسن، قال. أي من أجل الإثم الذي في قلبه، يعني الكفر.
وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة، وكلها متقاربة.
وفي قوله: * (أخذته العزة بالإثم) * نوع من البديع يسمى التتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس، وتقربه للفهم، كقوله تعالى: * (ولا طائر يطير بجناحيه) * وذلك أن العزة محمودة ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، كما قال: * (أعزة على الكافرين) * * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * * (فإن العزة لله جميعا) * فلما قال: بالإثم، اتضح المعنى وتم، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها. قال ابن مسعود: لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله، أو تقول: أو لمثلى يقال هذا؟ وقيل لعمر: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعا، وقيل: سجد، وقال: هذا مقدرتي. وتردد يهودي إلى باب هارون الرشيد، سنة فلم يقض له حاجة، فتحيل حتى وقف بين يديه، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين: فنزل هارون عن دابته، وخر ساجدا، وقضى حاجته، فقيل له في ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) *.
* (فحسبه جهنم) * أي: كافيه جزاء وإذلالا جهنم، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل: فحسبه، لأنه جعله اسم فعل، إما بمعنى الفعل الماضي، أي: كفاه جهنم، أو: بمعنى فعل الأمر، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم، وهو الغاية في الذل، ولما كان قوله: اتق الله، حل به ما أمر أن يتقيه، وهو: عذاب الله، وفي قوله: فحسبه جهنم، استعظام لما حل به من العذاب، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.
* (ولبئس المهاد) * تقدم الكلام في: بئس، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو، لكن التفريع
(١٢٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131 ... » »»