فأما من صرف فإنه يعني مصرا من الأمصار غير معين، واستدلوا بالأمر بدخول القرية، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد. وقيل: هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة، بدليل: ادخلوا الأرض المقدسة. وقيل: أراد بقوله: مصرا وإن كان غير معين مصر فرعون، وهو من إطلاق النكرة، ويراد بها المعين، كما تقول: ائتني برجل، وأنت تعني به زيدا. قال أشهب، قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون. وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنونة هي الاسم العلم. والمراد بقوله: * (ءان * تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) *، قالوا: وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الاسم لسكون وسطه، قاله الأخف 5، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الاسم بكونه ثلاثيا ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله:
* لم تتلفع بفضل مئزرها دعد * ولم تسق دعد في العلب * وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثيا ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياسا على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفا، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه. وقال الحسن بن بحر: المراد بقوله مصرا، البيت المقدس، يعني أن اللفظ، وإن كان نكرة، فالمراد به معين، كما قلنا في قول من قال: إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة. وأما من قرأ مصر بغير تنوين، فالمراد مصر العلم، وهي دار فرعون. واستبعد بعض الناس قول من قال: إنها مصر فرعون، قال: لأنهم من مصر خرجوا، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم: * (اذهب أنت * وربك فقاتلا إنا هاهنا * قاعدون) *، فماتوا جميعا في التيه، وبقي أبناؤهم، فامتثلوا أمرالله، وهبطوا إلى الشام، وقاتلوا الجبارين، ثم عادوا إلى البيت المقدس. ولم يصرح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر. انتهى كلامه. فتلخص من قراءة التنوين: أن يكون المراد مصرا غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصرا غير معين من أمصار الشام، أو معينا، وهو بيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال.
* (فإن لكم ما سألتم) *: هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصرا معنى أن تهبوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: سألتم: بكسر السين، وهذا من تداخل اللغات، وذلك أن في سأل لغتين: إحداهما: أن تكون العين همزة فوزنه فعل. والثانية: أن تكون العين واوا تقول: سأل يسأل، فتكون الألف منقلبة عن واو، ويدل على أنه من الواو، وقولهم: هما يتساولان، كما تقول: يتجاوبان، وحين كسر السين توهم أنه فتحها، فأتى بالعين همزة، قال الشاعر: