تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٩٩
وإثمك) *، * (فباءو بغضب على غضب) *. وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث: (أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي). وقال بعض الناس: باء لا تجيء إلا في الشر. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة. ويكون باؤوا في معنى يبوؤون، نحو * (أزفت الازفة) *، * (اقتربت الساعة) *. * (من الله) * يحتمل أن يكون متعلقا بباؤوا إذا كان باء بمعنى رجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف ويكون في موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن، ويبعد الوجه الأول، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه. * (ذلك بأنهم) * الإشارة إلى المباءة بالغضب، أو المباءة. والضرب وهو مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم.
* (كانوا يكفرون بآيات الله) *: الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى، أو التوراة، أو آيات منها، كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو فيها الرجم، أو القرآن، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل، أقوال خمسة، وإضافة الآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى. * (ويقتلون النبيين) *: قتلوا يحيى وشعيا وزكريا. وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبيا، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار، وقامت سوق قتلهم في آخره. وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ: يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل، وهي قراءة علي. وقرأ الحسن: وتقتلون بالتاء، فيكون ذلك من الالتفات. وروي عنه بالياء كالجماعة، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة. وقرأ نافع: بهمز النبيين والنبىء والأنبياء والنبوءة، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في: * (إن وهبت نفسها للنبى) * إن أراد وفي * (لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن) *، في الوصل. وقرأ الجمهور بغير همز، وقد تقدم الكلام عليه في المفردات.
* (بغير الحق) *: متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل: ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمرا يستحق عليه فيه القتل، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم، أي بغير الحق عندهم، أي لم يدعوا في قتلهم وجها يستحقون به القتل عندهم. وقيل: جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله: * (ولاكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *، إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته. قال ابن عباس وغيره: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر. قيل: وعرف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثا. وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره.
* (ذالك بما عصوا وكانوا يعتدون) *، ذلك: رد على الأول وتكرير له، فأشير به لما أشير بذلك الأول، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين، فلا يكون تكريرا ولا توكيدا، ومعناه: أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم، فجسرهم هذا على ذلك، إذا المعاصي يريد الكفر. * (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) *، * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم) *، وقولهم * (قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم) *. وقد تقدم تفسير العصيان والاعتداء لغة، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حد الله لهم من الحق إلى الباطل. وقيل: التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء. وقيل: العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء. وقيل: الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
(٣٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 394 395 396 397 398 399 400 401 402 403 404 ... » »»