تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٩٦
فيكون قد راعى المبدل منه، إذ لو راعى البدل لقال: أتستبدلون اللاتي هي أدنى، وقد تقدم القول في أدنى الكسائي: أدنأ بالهمز، ووقع البعض من جمع في التفسير، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي، فقال: وقرأ زهير والكسائي شاذا: أدنأ، فظن أن هذه قراءة الكسائي، وجعل زهيرا والكسائي شخصين، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك، وبالفرقبي، فهو رجل واحد. فأما تفسير: الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل: أحدها: قال الزجاج: تفاضل الأشياء بالقيم، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة، والمن والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطرا، واختار هذا الزمخشري، قال: أقرب منزلة وأهون مقدارا، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو أدنى المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال: بعيد المحل بعيد المنزلة، يريدون الرفعة والعلو. انتهى كلامه، وهو من كلام الزجاج. والثاني: أن المن والسلوى هو الذي من الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه. الثالث: أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها. الرابع: أن المن والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة. الخامس: أن المن والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة، وما كان حلا خالصا أفضل مما يدخله الحرام والشبهة. السادس: أن المن والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه. وملخص هذه الأقوال: هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه، أو اللذة، أو الكلفة، أو الحل، أو الجنس؟ أقوال ستة. وأما قراءة زهير فهي من الدناء.
وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد، وهو الخمسة، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله: * (بالذى هو خير) *. ومن جعل أدنى بمعنى أقرب، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد، وحذف من ومعمولها بعد قوله: هو خير، لما ذكرناه في قوله: هو أدنى، من وقوع أفعل التفضيل خبرا وتقديره: منه، أي من: * (الذى هو أدنى) *. وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية، وكان الخير أفعل التفضيل، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان، بخلاف الجملة الفعلية، فإنه كان يتعين الزمان، أو يتجوز في ذلك، إن لم يقصد التعيين، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح، وكانت صلة ما في قوله: مما تنبت، جملة فعلية، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث، والإنبات متجدد دائما، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة.
* (اهبطوا مصرا) *: في الكلام حذف على تقدير أن القائل: * (أتستبدلون) * هو موسى، وتقدير المحذوف، فدعا موسى ربه فأجابه، * (قال اهبطوا) *. وتقدم معنى الهبوط، ويقال: هبط الوادي: حل به، وهبط منه: خرج، وكان القادم على بلد ينصب عليه. وقرئ اهبطوا، بضم الباء، وهما لغتان، والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصرا هنا. وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب: بغير تنوين، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان.
(٣٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 391 392 393 394 395 396 397 398 399 400 401 ... » »»