تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٤٠٠
(اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة). وقيل: هو الاعتداء في السبت، قال تعالى: * (وقلنا لهم لا تعدوا فى السبت) *. وما: في قوله * (بما عصوا) * مصدرية، أي ذلك بعصيانهم، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي، وليدل على أن الاعتداء صار كالشئ الصادر منهم دائما. ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وبين علة ذلك، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك، وهو كفرهم بآيات الله.. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي، وما يتعدى من الظلم. قال معنى هذا صاحب المنتخب، ويظهر أن قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وأن الإشارة بقوله * (ذالك بما عصوا) * إشارة إلى الكفر والقتل، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر، ويعود الاعتداء إلى القتل، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين. كما ذكر أولا شيئين وهما: الضرب والمباءة، وقابلهما بشيئين وهما: الكفر والقتل، فجاء هذا لفا ونشرا في المؤضعين، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس.
وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولا، منها: أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون، والأكل من ثمراتها ما يشتهون، ثم كلفوا النزر من العمل والقول، وهو دخول بابها ساجدين، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة، فخالفوا في الأمرين فعلا وقولا، جريا على عادتهم في عدم الامتثال، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال. ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم، وذلك بأن دعا الله لهم بالسقيا، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم، من قرع الصفا بالعصا، عيونا يجري بها ما يكفيهم من الماء، معينا على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق، وأمروا بالأكل منه والشرب، ثم نهوا عن الفساد، إذ هو سبب لقطع الرزق. ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا: * (ادع لنا ربك) *، وذلك جري على عادته معهم، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائدا عليهم بصلاح دينهم ودنياهم، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطا رديئة، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر، بخلاف ما رزقهم الله، إذ هو شيء واحد جيد، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك.
كان الخليل بن أحمد، رحمه الله، يستف دقيق الشعير، ويشرب عليه الماء العذب، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى. ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومباءتهم بغضبه، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب الإيمان، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان، وعن قتلهم من كان سببا لهدايتهم، وهم الأنبياء، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى، وأن الذي جر الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذان كانا سبقا منهم قبل تعاطي الكفر والقتل.
وقال:
* إن الأمور صغيرها * مما يهيج له العظيم * والشر تحقره وقد ينمى
(٤٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 395 396 397 398 399 400 401 402 403 404 405 ... » »»