تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٩٤
الأنفع في الدنيا، أو الأنفع في الآخرة. وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها، وإنما كان سؤالا مباحا، والدليل عليه أن قوله: * (كلوا واشربوا) * من قبل هذه الآية، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها، إما بنفسه أو على لسان الرسول. ولما كان سؤال النبي أقرب للإباحة، سألوه عن ذلك، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع. ورغبة الإنسان فيما اعتاده، وإن كان خسيسا، فوق رغبة ما لم يعتده، وإن كان شريفا، ولأن ذلك يكون سببا لانتقالهم عن التيه الذي ملوه، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه، فأرادوا الحلول بغيره، ولأن المواظسش بة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك. فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية. ومما يؤكد ذلك قوله: * (اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) * هو كالإجابة لماطلبوا. ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ووصف الطعام بواحد، وإن كان طعامين، لأنه المن والسلوى اللذان رزقوهما في التيه، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معا من طعام أهل التلذذ والسرف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة، كالحبوب والبقول ونحوهما. ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري. وقيل: أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه. وقيل: كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لونا واحدا، قاله ابن زيد. وقيل: كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه، ثم انقطع عنهم، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها. وقيل: أرادوا بالطعام الواحد السلوى، لأن المن كان شرابا، أو شيئا يتحلون به، وما كانوا يعدون طعاما إلا السلوى. وقيل: عبرعنهما بالواحد، كما عبر بالاثنين عن الواحد نحو: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) *، وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب. وقيل: قالوا ذلك عند نزول أحدهما. وقيل: معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء، فلا يستعين بعضنا ببعض، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعا واحدا، وهو كونهم ذوي غنى، فلا يخدم بعضهم بعضا، وكذلك كانوا في التيه، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض. فهذه تسعة أقوال في معنى قوله: * (على طعام واحد) *.
* (فادع لنا ربك) *: معناه: اسأله لنا، ومتعلق الدعاء محذوف، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا. ولغة بني عامر: فادع بكسر العين، جعلوا دعا من ذوات الياء، كرمى يرمي، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعو لهم، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم، ولذلك قالوا: ربك، ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا الذي هو محسن لك، فكما أحسن إليك في أشياء، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك. * (يخرج لنا) *: جزمه على جواب الأمر الذي هوادع، وقد مر نظيره في * (أوفوا * بعهدى أوف بعهدكم) *. وقيل: ثم محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل: جزم يخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. * (مما تنبت الارض) *: مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضه: أي مأكولا مما تنبت، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة، التقدير: ما تنبت، وما موصولة، والعائد محذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو البقاء: لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز، إذ المنبت هو الله تعالى، لكنه لما
(٣٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 389 390 391 392 393 394 395 396 397 398 399 ... » »»