تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٩٣
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة، واقتضى أن يكون الرزق مباحا، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما، وأنه غير جائز. والجواب: إن الرزق هنا ليس بعادم هذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام، وشرب المستلذ من الشراب، والجمع بين اللونين والمطعومين، وكل ذلك بشرط الحل. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم) كان يحب الحلواء والعسل، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب، وكانت تنبذ له فيه الثمرات، وجمع بين القثاء والرطب، وسقى بعض نسائه الماء. وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى.
* (ولا تعثوا فى الارض مفسدين) *: لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب، كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوة الاستعلائية. نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك، وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها، وهو الفساد في الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية: معناه ولا تسعوا. وقال قتادة: ولا تسيروا. وقيل: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم، لأن كل سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل: معناه: لا تؤخروا الغذاء، فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل: معناه لا تخالطوا المفسدين. وقيل: معناه لا تتمادوا في فسادكم. وقيل: لا تطغوا، قاله ابن زيد. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. في الأرض: الجمهور على أنها أرض التيه، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم، ويجوز أن يريد الأرضين كلها. وأل: لاستغراق الجنس. ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد. مفسدين: حال مؤكدة.
قال القشيري، في قوله تعالى: * (وإذ استسقى) * الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصماء كان قادرا على إروائهم بغير ماء، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، واتصال محل الاستعانة إليه، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا، نوع من المعالجة، ثم أراد أن يكون كل سبط جاريا على سننه، غير مزاحم لصاحبه، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكروحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر، فقال: * (ولا تعثوا) *. والمناهل مختلفة، وكل يرد مشربه: فمشرب فرات، ومشرب أجاج، ومشرب صاف، ومشرب رنق، وسياق كل قوم يقودهم، فالنفوس ترد منا هل المنى، والقلوب ترد مشارب التقى، والأرواح ترد مناهل الكشف، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات. انتهى كلامه ملخصا.
* (وإذ قلتم ياموسى * موسى * لن نصبر على طعام واحد) *: لما سئموا من الإقامة في التيه، والمواظبة على مأكول واحد، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم. وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية، قالوا: لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى، وتلك الكراهة معصية، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير، وبأن قوله: * (أتستبدلون) * هو على سبيل الإنكار. والجواب، أن قولهم: * (لن نصبر على طعام واحد) * لا يدل على عدم الرضا به فقط، بل اشتهوا أشياء أخر. وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت
(٣٩٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 398 ... » »»