تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٩٢
مراعاة المعنى هنا لازمة، لأن كل قد أضيفت إلى نكرة، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره، قال تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) *، وقال الشاعر:
* وكل أناس قاربوا قيد فحلهم * ونحن حللنا قيده فهو سارب * وقال:
* وكل أناس سوف تدخل بينهم * دويهية تصفر منها الأنامل * وقال تعالى: * (كل نفس ذائقة الموت) *، وتقول: كل رجلين يقولان ذلك، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل، وثم محذوف تقديره: مشربهم منها: أي من الاثنتي عشرة عينا. ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشىء لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى، والشرب من هذه العيون، أو أمروا بالدوام على ذلك، لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر، والأمر بالواقع أمر بدوامه، كقولك للقائم: قم. * (كلوا واشربوا) *: هو على إضمار قول، أي وقلنا لهم، وهذا الأمر أمر إباحة. قال السلمي: مشرب كل أحد حيث أنزله رائده، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا، أو قلبه فمشربه الآخرة، أو سره فمشربه الجنة، أو روحه فمشربه السلسبييل، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *، طهرهم به عن كل ما سواه، وبدىء بالأكل لأنه المقصود أولا، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء.
* (من رزق الله) *، من: لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتعبيض. ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف، أضيفا إلى الله تعالى، وهذا التفات، إذ تقدم فقلنا: اضرب، ولو جرى على نظم واحد لقال: من رزقنا، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسندا إلى موسى، أي وقال موسى: * (كلوا واشربوا) * فلا يكون فيه التفات، ومن رزق الله متعلق بقوله: واشربوا، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكان يكون: كلوا واشربوا منه، من رزق الله، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما. والرزق هنا هو المرزوق، وهو الطعام من المن والسلوى، والمشروب من ماء العيون. وقيل: هو الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب، وهذا القول يكون فيه من رزق الله، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز، لأن الشرب من الماء حقيقة، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء، لا أن الأكل من الماء حقيقة، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول.
ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا، واختص بالإضافة للفظ الله، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد، الجامع لسائر الأسماء * (الله الذى خلقكم ثم رزقكم) *، * (قل من يرزقكم من * السماوات والارض * قل الله) *، * (من * الله الخلق ثم يعيده) *، و * (من يرزقكم من السماء والارض) *، * (مع الله بل) *؟
(٣٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 387 388 389 390 391 392 393 394 395 396 397 ... » »»