وقيل: يجوز أن يراد نفي الكمال، أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله عليه وسلم): (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله والناس أجمعين).
* (حتى نرى الله جهرة) * حتى: هنا حرف غاية، أخبروا بنفي إيمانهم مستصحبا إلى هذه الغاية ومفهومها أنهم إذا رأوا الله جهرة آمنوا، والرؤية هنا: هي البصرية، وهي التي لا حجاب دونها ولا ساتر، وانتصاب جهرة على أنه مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرؤية أن تكون مناما أو علما بالقلب. والمعنى حتى نرى الله عيانا، وهو مصدر من قولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرؤية، فانتصابها على حد قولهم: قعد القرفصاء، وفي: نصب هذا النوع خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوبا بالفعل السابق يعدي إلى النوع، كما تعدى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا. فعلى القول الأول تكون الجهرة من صفات الرؤية، وعلى هذا القول تكون من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن يكون راجعا لمعنى القول، أو القائلين، فيكون المعنى: وإذ قلتم كذا قولا جهرة أو جاهرين بذلك القول، لم يسروه ولم يتكاتموا به، بل صرحوا به وجهروا بأنهم أخبروا بانتفاء الإيمان مغيا بالرؤية. والقول بأن الجهرة راجع لمعنى القول مروي عن ابن عباس وأبي عبيدة، والظاهر تعلقه بالرؤية لا بالقول، وهو الذي يقتضيه التركيب الفصيح.
وقرأ ابن عباس وسهل بن شعيب وحميد بن قيس: جهرة، بفتح الهاء، وتحتمل هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن يكون جهرة مصدرا كالغلبة، فتكون معناها ومعنى جهرة المسكنة الهاء سواء، ويجري فيها من الإعراب الوجوه التي سبقت في جهرة. والثاني: أن يكون جمعا لجاهر، كما تقول: فاسق وفسقة، فيكون انتصابه على الحال، أي جاهرين بالرؤية. قال الزمخشري: وفي هذا الكلام دليل على أن موسى عليه السلام رادهم، وعرفهم أن رؤية ما لا يجوز عليه أن يكون في جهة محال، وأن من استجاز على الله الرؤية، فقد جعله من جملة الإقسام أو الإعراض، فرادوه بعد بيان الحجة ووضوح البرهان، ولجوا فكانوا في الكفر كعبدة العجل، فسلط الله عليهم الصاعقة، كما سلط على أولئك القتل، تسوية بين الكافرين، ودلالة على عظمها بعظم المحنة. اه. كلامه. وهو مصرح باستحالة رؤية الله تعال بالأبصار. وهذه المسألة فيها خلاف بين المسلمين.
ذهبت القدرية والمعتزلة والنجارية والجهمية ومن شاركهم من الخوارج إلى استحالة ذلك في حق الباري سبحانه وتعالى، وذهب أكثر المسلمين إلى إثبات الرؤية. فقال الكرامية: يرى في جهة فوق وله تحت، ويرى جسما، وقالت المشبهة: يرى على صورة، وقال أهل السنة: لا مقابلا، ولا محاذيا، ولا متمكنا، ولا متحيزا، ولا متلونا، ولا على صورة ولا هيئة، ولا على اجتماع وجسمية، بل يراه المؤمنون، يعلمون أنه بخلاف المخلوقات كما علموه كذلك قبل. وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة الثابتة في رؤية الله تعالى، فوجب المصير إليها. وهذه المسألة من أصعب مسائل أصول الدين، وقد رأيت لأبي جعفر الطوسي من فضلاء الإمامية فيها مجلدة كبيرة، وليس في الآية ما يدل على ما ذهب إليه الزمخشري من استحالة الرؤية، لكن عادته تحميل الألفاظ ما لا تدل عليه، خصوصا ما يجر إلى مذهبه الاعتزالي، نعوذ بالله من العصبية فيما لا ينبغي. وكذلك اختلفوا في رؤية الحق نفسه، فذهب أكثر المعتزلة إلى أنه لا يرى نفسه، وذهبت