تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٦٧
الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها، انتهى كلامه.
* (فاقتلوا أنفسكم) *: ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح. فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم. والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه السلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل، والمأمور بقتل أنفسهم عباد العجل، أو من عبد ومن لم يعبد. والمعنى: اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم، كقوله: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) *، أي من أهلكم وجلدتكم، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم، ثلاثة أقوال. وقال ابن إسحاق: أمروا بأن يستسلموا للقتل، وسمي الاستسلام للتقل قتلا على سبيل المجاز. وقيل: معنى فاقتلوا أنفسكم: ذللوا أهواءكم. وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل، ومنه أيضا قول حسان:
* إن التي عاطيتني فرددتها * قتلت قتلت فهاتها لم تقتل * فتلخص في قوله: * (فاقتلوا) *، ثلاثة أقوال: الأول: الأمر بقتل أنفسهم. الثاني: الاستسلام للقتل. والثالث: التذليل للأهواء. والأول هو الظاهر، وهو الذي نقله أكثر الناس. وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم، فقيل: وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم. وقيل: قتل بعضهم بعضا من غير تعيين قاتل ولا مقتول. وقيل: القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون، والمقتولون عباد العجل. وقيل: القاتلون هم الذين كانوا مع موسى في المناجاة بطور سيناء، والمقتولون من عداهم. وإذا قلنا: إن بعضهم قتل بعضا، فاختلفوا في كيفية القتل، فقيل: اصطفوا صفين، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر، فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادة للمقتول، وتوبة للقاتل، وقيل: أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك. وقيل: وقف عباد العجل صفا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: احتبى عباد العجل في أفنية دورهم، أو في موضع غيره، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته، أو مد طرفه إلى قاتله، أو اتقاه بيد أو رجل، فيقولون: آمين. فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفا. وفي رواية، قال لهم: من حل حبوته لم تقبل توبته، ولم يذكر اللعنة. وقيل: إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: أصبروا، فلعن الله من مد طرفه، أو حل حبوته، أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء، حتى دعا موسى وهارون، قالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفا. انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين. وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار. وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم المعاودة إليه.
والفاء في قوله: * (فاقتلوا أنفسكم) *، إن قلنا: إن التوبة هي نفس القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه الجملة بدلا من قوله، فتوبوا، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية. وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء للتعقيب، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل، تتمة لتوبتكم. وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون
(٣٦٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 362 363 364 365 366 367 368 369 370 371 372 ... » »»