تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٧٤
يتناول جميع الطاعات لقوله: * (اعملوا ءال * داوود * شاكرا) *، انتهى كلامه. وقال الماوردي: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، ومعاينة الأهوال التي تضطره وتلجئه إلى الاعتراف بعد الاقتراف. فقال قوم: سقط عنهم التكليف ليكون تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار. وقال قوم: يبقى تكليفهم لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد، ولا يمنع حكم التكليف بدليل قوله تعالى: * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة) *، وذلك حين أبوا أو يقبلوا التوراة، فلما نتق الجبل فوقهم آمنوا وقبلوها، فكان إيمانهم بها إيمان اضطرار، ولم يسقط عنهم التكليف، ومثلهم قوم يونس في إيمانهم. اه كلامه.
* (وظللنا عليكم الغمام) * الغمام: مفعول على إسقاط حرف الجر، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرد، أو مفعول به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللا. فعلى هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه كقولهم؟ عدلت زيدا، أي جعلته عدلا، فكذلك هذا معناه: جعلنا الغمام عليكم ظله، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل، فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما ورد في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهة مما يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني فعل، وليس المعنى على ما يقتضيه ظاهر اللفظ، إذ ظاهره يقتضي أن الغمام ظلل علينا، فيكون قد جعل على الغمام شيء يكون ظلة للغمام، وليس كذلك، بل المعنى، والله أعلم، ما ذكره المفسرون. وقد تقدم تفسير الغمام، وقيل: إنه الغمام الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر، وهو الذي تأتي فيه ملائكة الرحمن، وهو المشار إليه بقوله: * (في ظلل من الغمام والملائكة) *، وليس بغمام حقيقة، وإنما سمي غماما لكونه يشبه الغمام. وقيل: الذين ظلل عليهم الغمام بعض بني إسرائيل، وكان الله قد أجرى العادة في بني إسرائيل أن من عبد الله ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته غمامة.
وحكي أن شخصا عبد ثلاثين سنة فلم تظله غمامة، فجاء إلى أصحاب الغمائم فذكر لهم ذلك فقالوا: لعلك أحدثت ذنبا، فقال: لا أعلم شيئا إلا أني رفعت طرفي إلى السماء وأعدته بغير فكر، فقالوا له: ذلك ذنبك، وكانت فيهم جماعة يسمون أصحاب الغمائم، فامتن الله عليهم بكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة الباهرة. والمكان الذي أظلتهم فيه الغمامة كان في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس، وسيأتي بيان ذلك في قصتهم. وقيل: أرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل، وقعوا فيها حين خرجوا من البحر، فأظلهم الله بالغمام، ووقاهم حر الشمس.
* (وأنزلنا عليكم المن والسلوى) * المن: اسم جنس لا واحد له من لفظه. وفي المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال: ما يسقط على الشجر أحلى من الشهد وأبيض من الثلج، وهو قول ابن عباس والشعبي، أو صمغة طيبة حلوة، وهو قول مجاهد؛ أو شراب كان ينزل عليهم يشربونه بعد مزجه بالماء، وهو قول الربيع أبن أنس وأبي العالية؛ أو عسل كان ينزل عليهم، وهو قول ابن زيد؛ أو الرقاق المتخذ من الذرة أو من النقي، وهو قول وهب؛ أو الزنجبيل، وهو قول السدي، أو الترنجبين، وعليه أكثر المفسرين؛ أو عسل حامض، قاله عمرو بن عيسى؛ أو جميع ما من الله به عليهم في التيه وجاءهم عفوا من غير تعب، قاله الزجاج، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم): (الكمأة من المن الذي من الله به على بني إسرائيل). وفي رواية: على موسى. وفي السلوى الذي أنزله الله على بني إسرائيل أقوال: طائر يشبه السماني، أو هو السماني نفسه، أو طيور حمر بعث الله بها سحابة فمطرت في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه
(٣٧٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 369 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 ... » »»