تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٧٥
على بعض، قاله أبو العالية ومقاتل؛ أو طير يكون بالهند أكبر من العصفور، قاله عكرمة؛ أو طير سمين مثل الحمام؛ أو العسل بلغة كنانة، وكانت تأتيهم السلوى من جهة السماء، فيختارون منها السمين ويتركون الهزيل؛ وقيل: كانت ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي. وقيل: كانت تنزل على الشجر فينطبخ نصفها وينشوي نصفها. وكان المن ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، والسلوى بكرة وعشيا، وقيل: دائما، وقيل: كلما أحبوا.
وقد ذكر المفسرون حكايات في التظليل ونزول المن والسلوى، وتظافرت أقاويلهم أن ذلك كان في فحص التيه، وستأتي قصته في سورة المائدة، إن شاء الله تعالى، وأنهم قالوا: من لنا من حراك الشمس؟ فظلل عليهم الغمام، وقالوا: من لنا بالطعام؟ فأنزل الله عليهم المن والسلوى، وقالوا: من لنا بالماء؟ فأمر الله موسى بضرب الحجر، وهذه دل عليها القرآن. وزيد في تلك الحكايات أنهم قالوا: بم نستصبح؟ فضرب لهم عمود من نور في وسط محلتهم، وقيل: من نار، وقالوا: من لنا باللباس؟ فأعطوا أن لا يبلى لهم ثوب، ولا يخلق، ولا يدرن، وأن تنمو صغارها حسب نمو الصبيان. * (كلوا) *: أمر إباحة وإذن كقوله: * (فاصطادوا) *، * (فانتشروا فى الارض) *، وذلك على قول من قال: إن الأصل في الأشياء الحظر، أو دوموا على الأكل على قول من قال الأصل فيها الإباحة، وههنا قول محذوف، أي وقلنا: كلوا، والقول يحذف كثيرا ويبقى المقول، وذلك لفهم المعنى، ومنه: أكفرتم؟ أي فيقال: أكفرتم؟ وحذف المقول وإبقاء القول قليل، وذلك أيضا لفهم المعنى، قال الشاعر:
* لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم * برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا * التقدير: قلتم نقاتلهم. * (من طيبات) *: من: للتبعيض لأن المن والسلوى بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا على قول الأخفش، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي للجنس في إثباتها خلاف، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى مختلف في إثباته، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك. والطيبات هنا قيل: الحلال، وقيل: اللذيذ المشتهى. ومن زعم أن هذا على حذف مضاف، وهو كلوا من عوض طيبات ما رزقناكم، فقوله ضعيف، عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة بالمن والسلوى، فكانا بدلا من الطيبات. وقد استنبط بعضهم من قوله: * (كلوا من طيبات ما رزقناكم) * أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل، بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك، وهو قول. وقيل: يملك بالوضع فقط، وقيل: بالأخذ والتناول، وقيل: لا يملك بحال، بل ينتفع به وهو على ملك المالك. وما في قوله: * (ما رزقناكم) * موصولة، والعائد محذوف، أي ما رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوز فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير، ويكون يطلق المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن.
* (وما ظلمونا) * نفي أنهم لم يقع منهم ظلم الله تعالى، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة. قيل: المعنى وما ظلمونا بقولهم: * (أرنا الله جهرة) *، بل ظلموا أنفسهم بما قابلناهم به من الصاعقة. وقيل: وما ظلمونا بادخارهم المن والسلوى، بل ظلموا أنفسهم بفساد طعامهم وتقليص أرزاقهم. وقيل: وما ظلموانا بإبائهم على موسى أن يدخلوا قرية الجبارين. وقيل: وما ظلمونا باستحبابهم العذاب وقطعهم مادة الرزق عنهم، بل ظلموا أنفسهم بذلك. وقيل: وما ظلمونا بكفر النعم، بل ظلموا أنفسهم بحلول النقم. وقيل: وما ظلمونا بعبادة العجل، بل ظلموا أنفسهم بقتل بعضهم بعضا.
واتفق ابن عطية والزمخشري على أنه يقدر محذوف
(٣٧٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 370 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 ... » »»