تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٧٦
قبل هذه الجملة، فقدره ابن عطية، فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر، قال: والمعنى وما وضعوا فعلهم في موضع مضرة لنا، ولكن وضعوه في موضع مضرة لهم حيث لا يجب. وقدره الزمخشري: فظلموا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، قال: فاختصر الكلام بحذفه لدلالة وما ظلمونا عليه، انتهى. ولا يتعين تقدير محذوف، كما زعما، لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، ومن سؤال رؤية الله على سبيل التعنت، وغير ذلك مما لم يقص هنا. فجاء قوله تعالى: * (وما ظلمونا) * جملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا بذلك نقص ولا ضرر، بل وبال ذلك راجع إلى أنفسهم ومختص بهم، لا يصل إلينا منه شيء.
* (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) *: لكن هنا وقعت أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله تعالى: * (وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم) *، وكذلك العكس، نحو قوله تعالى: * (ألا إنهم هم السفهاء ولاكن لا يعلمون) *، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن الاستدراك الحاصل بها إنما يكون عليه ما قبلها بوجه ما، وذلك أنه لما تقرر أنه قد وقع منهم ظلم، فلما نفى ذلك الظلم أن يصل إلى الله تعالى بقيت النفس متشوفة ومتطلعة إلى ذكر من وقع به الظلم، فاستدرك بأن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعا بهم، وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم، ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها، نحو قوله: * (وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم) *، لكن دخلت كانوا هنا مشعرة بأن ذلك من شأنهم ومن طريقتهم، ولأنها أيضا تكون في كثير من المواضع تستعمل حيث يكون المسند لا ينقطع عن المسند إليه، نحو قوله: * (وكان الله بكل شىء عليما) *؛ فكان المعنى: ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات. ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.
ولم يذكره ابن مالك في التسهيل ولا فيما وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا وهو قوله: * (أنفسهم) *، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل، وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنه من حيث المعنى صار العامل في المفعول توكيدا لما يدل عليه ما قبله. فليس ذكره ضروريا، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد، وذلك أنك تقول: ما ضربت زيدا ولكن ضربت عمرا، فذكر ضربت الثانية أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافيا لما قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيدا ولكن عمرا، فلست مضطرا لذكر العامل. فلما كان معنى قوله: * (ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون) * في معنى: * (ولاكن ظلموا أنفسهم) *، كان ذكر العامل في المفعول ليس مضطرا إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا ولكن أنفسهم، لكان كلاما عربيا، ويكتفي بدلالة لكن أن ما بعدها مناف لما قبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ذكر قصص بني إسرائيل فصولا منها: أمر موسى، على نبينا وعليه السلام، إياهم بالتوبة إلى الله من مقارفة هذا الذنب العظيم الذي هو عبادة العجل من دون الله، وأن مثل هذا الذنب العظيم تقبل التوبة منه، والتلطف بهم في ندائهم بيا قوم، وتنبيههم على علة الظلم الذي كان وباله راجعا عليهم، والإعلام بأن توبتهم بقتل أنفسهم، ثم الإخبار بحصول توبة الله عليهم وأن ذلك كان بسابق رحمته، ثم التوبيخ لهم بسؤالهم ما كان لا ينبغي لهم أن يسألوه، وهو رؤية الله عيانا، لأنه كان سؤال تعنت. ثم ذكر ما ترتب على هذا السؤال من أخذ الصاعقة إياهم. ثم الإنعام عليهم بالبعث، وهو من الخوارق العظيمة أن يحيى الإنسان في الدنيا بعد أن مات. ثم
(٣٧٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 371 372 373 374 375 376 377 378 379 380 381 ... » »»