إنعاما سادسا، وذكر في كونه إنعاما وجوها: منها ما يتعلق بغير بني إسرائيل، ومنها ما يتعلق بهم، والمقصود ذكر ما يتعلق بكون ذلك إنعاما، وهو أن إحياءهم لأن يتوبوا عن التعنت، ولأن يتخلصوا من أليم العقاب ويفوزوا بجزيل الثواب من أعظم النعم، ولا تدل هذه الآية على أن قولهم هذا بعد أن كلف عبدة العجل بالقتل ولا قبله. وقد قيل بكل من القولين، لأن هذه الجمل معطوفة بالواو، والواو لا تدل بوضعها على الترتيب الزماني. قال بعضهم: لما أحلهم الله محل مناجاته، وأسمعهم لذيذ خطابه، اشرأبت نفوسهم للفخر وعلو المنزلة، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديبا لهم وعبرة لغيرهم، * (إن فى ذالك لعبرة لاولى الابصار) *.
* (ثم بعثناكم من بعد موتكم) *: معطوف على قوله: * (فأخذتكم الصاعقة) *، ودل العطف بثم على أن بين أخذ الصاعقة والبعث زمانا تتصور فيه المهلة والتأخير، هو زمان ما نشأ عن الصاعقة من الموت، أو الغشي على الخلاف الذي مر. والبعث هنا: الإحياء، ذكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله جميعا رجلا بعد رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون. وقيل: معنى البعث الإرسال، أي أرسلناكم. روي أنه لما أحياهم الله سألوا أن يبعثهم أنبياء فبعثهم أنبياء. وقيل: معنى البعث: الإفاقة من الغشية، ويتخرج على قول من قال إنهم صعقوا ولم يموتوا. وقيل: البعث هنا: القيام بسرعة من مصارعهم، ومنه قالوا: * (قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا) *؟ وقيل معنى البعث هنا، التعليم، أي ثم علمناكم من بعد جهلكم، والموت هنا ظاهرة مفارقة الروح الجسد، وهذا هو الحقيقة، وكان إحياؤهم لأجل استيفاء أعمارهم. ومن قال: كان ذلك غشيا وهمودا كان الموت مجازا، قال تعالى: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) *، والذي أتاه مقدماته سميت موتا على سبيل المجاز، قال الشاعر:
* وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا * قولا يبرئكم إني أنا الموت * جعل نفسه الموت لما كان سببا للموت، وكذلك إذا حمل الموت على الجهل كان مجازا، وقد كنى عن العلم بالحياة، وعن الجهل بالموت. قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) *، وقال الشافعي، رحمه الله:
إنما النفس كالزجاجة والعلم سراج وحكمة الله زيت * فإذا أبصرت فإنك حي * وإذا أظلمت فإنك ميت * وقال ابن السيد:
* أخو العلم حي خالد بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميموذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم * ولا يدخل موسى على نبينا وعليه السلام في خطاب ثم * (بعثناكم) *، لأنه خطاب مشافهة للذين قالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) *، ولقوله: * (فلما أفاق) *، ولا يستعمل هذا في الموت. وأخطأ ابن قتيبة في زعمه أن موسى قد مات * (لعلكم تشكرون) *: وفي متعلق الشكر أقوال ينبني أكثرها على المراد بالبعث والموت. فمن زعم أنهما حقيقة قال: المعنى لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت، أو على هذه النعمة وسائر نعمه التي أسداها إليهم، ومن جعل ذلك مجازا عن إرسالهم أنبياء، أو إثارتهم من الغشي، أو تعليمهم بعد الجهل، جعل متعلق الشكر أحد هذه المجازات. وقد أبعد من جعل متعلق الشكر إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعه، بعد أن لم يكن شرائع. وقيل: المعنى لعلكم تشكرون نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت. وقال في المنتخب: إنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم. أما أنه كلفهم، فلقوله: * (لعلكم تشكرون) *. ولفظ الشكر