تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٣٦٨
توبة وجعل القتل شرطا في التوبة، فأطلق عليه مجازا، كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة: توبتك رد ما غصبت، يعني أنه لا تتم توبتك إلا به، فكذلك هنا. وتعدية التوبة بإلى معناه الانتهاء بها إلى الله، فتكون بريئة من الرياء في التوبة، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله. ولا يلتفت إلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ قد نقلنا أن منهم من قال ذلك، فليس بإجماع. وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده، يجب أن يخرج من أن يكون حيا، وما عدا ذلك إنما يسمى قتيلا على سبيل المجاز، قال: وهذا لا يجوز أن يأمر الله به، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة، لأن ذلك من فعل الله تعالى، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحا لمكلف آخر، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضوا من أعضائه، ولا يحصل الموت عقيبه، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حيا لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحا في الأفعال المستقبلة. انتهى كلامه، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة. والكلام معهم في ذلك مذكور في أصول الدين، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره. وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل.
وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي: قرأ قتادة: فاقتلوا أنفسكم. فأما فأقيلوا، فهو أمر من الإقالة، وكأن المعنى: أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات. وأما فاقتالوا أنفسكم، فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهور استقال لا اقتال. قال ابن جني: يضعف أن يكون عينها واوا كاقتادوا، ويحتمل طأن تكون ياء كأقياس، والتصريف يضعف أن يكون من الاستقالة، كما قال ابن جني، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيه افتعل بمعنى استفعل، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وذلك نحو: اعتصم واستعصم. قال السلمي: فتوبوا إلى بارئكم. ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها، فإنها لا تصلح لبساط الأنس. وقال الواسطي: كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، ولهذه إلامة أشد، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل. وقال فارس: التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية. وقيل: توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم، واقتلوا أنفسكم في طاعاته، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلب الجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم، ويبقى الحق كما لم يزل. وقال بعض أهل اللطائف: التوبة بقتل النفس غير منسوخة، لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرا، وهذه إلامة قتل أنفسهم في أنفسهم، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل، قال الشاعر:
* ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء *
(٣٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 363 364 365 366 367 368 369 370 371 372 373 ... » »»