أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٤٤
أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين، أحدهما: قوله إنه مسح برأسه وأذنيه، وهذا يقتضي أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية. والثاني: قوله: " الأذنان من الرأس " لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه، وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين، لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من الفائدة، فثبت أن المراد الوجه الثاني.
فإن قيل: يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس. قيل له: لا يجوز ذلك، لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه، ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه؟ فثبت أن قوله: " الأذنان من الرأس " إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له. ووجه آخر، وهو أن " من " بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة على غيره، فقوله: " الأذنان من الرأس " حقيقته أنهما بعض الرأس، فواجب إذا كان كذلك أن تمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا مسح المتوضئ برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه، وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من تحت أشفار عينيه " فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عشر من الفطرة: خمس في الرأس " فذكر منها المضمضة والاستنشاق، ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس، كذلك قوله:
" الأذنان من الرأس ". قيل له: لم يقل الفم والأنف من الرأس، وإنما قال: " خمس في الرأس " فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس، ونحن نقول إن هذه الجملة هو الرأس، ونقول العينان في الرأس، وكذلك الفم والأنف، قال الله تعالى: (لووا رؤوسهم) [المنافقون: 5] والمراد هذه الجملة. على أن ما ذكرته هو لنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأسا فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شئ منها إلا بدلالة، ولما قال تعالى: (وامسحوا برؤوسكم) وكان معلوما أنه لم يرد به الوجه وإن كان في الرأس وإنما أراد ما علا منه مما فوق الأذنين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: " الأذنان من الرأس " كان ذلك إخبارا منه بأنهما من الرأس الممسوح.
فإن قيل: روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديدا "، وروت الربيع بنت معوذ " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه ثم مسح أذنيه "، وهذا يقتضي تجديد الماء لهما. قيل له:
أما قولك " إنه أخذ لهما ماء جديدا " فلا نعلمه روي من جهة يعتمد عليها، ولو صح لم
(٤٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 439 440 441 442 443 444 445 446 447 448 449 ... » »»