أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٤٦
فإن قيل: لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشبهتا داخل الفم والأنف، فيجدد لهما ماء جديدا كالمضمضة والاستنشاق فيكون سنة على حيالها. قيل له: هذا غلط، لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد مسحه مع الرأس على وجه التبع، فكذلك الأذنان. وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنة على حيالهما من قبل أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماء جديدا، والأذنان والقفا جميعا من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له.
فإن قيل: لو كانت الأذنان من الرأس لحل بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنونا مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه. قيل له: لم يسن حلقهما ولا حل بحلقهما، لأن في العادة أن لا شعر عليهما، وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة، فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذا نادرا أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح. وأيضا فإنا قلنا إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بينا لا على أنهما الأصل، ألا ترى أنا لا نجيز المسح عليهما دون الرأس؟ فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلا في الحلق! وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له، لأنه لو كان باطنهما مغسولا لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما، ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح مع الرأس دل ذلك على أنهما من الرأس، ولأنا لم نجد عضوا بعضه من الرأس وبعضه من الوجه. وقال أصحابنا: لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يجزه من الفرض لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه، ألا ترى أنه لو كان شعره قد بلغ منكبه فمسح ذلك الموضع من شعره لم يجزه عن مسح رأسه؟.
واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي: " هو جائز ". وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث: " إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله ". والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى:
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) الآية، فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عهدة الآية، ولو شرطنا فيه الموالات وترك التفريق كان فيه إثبات زيادة في النص، والزيادة في النص توجب نسخه. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم) والحرج الضيق، فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونفي الحرج، وفي قول مخالفينا إثبات الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية. ويدل عليه قوله تعالى: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) [الأنفال:
11] الآية، فأخبر بوقوع التطهير بالماء من غير شرط الموالاة، فحيثما وجد كان مطهرا
(٤٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 441 442 443 444 445 446 447 448 449 450 451 ... » »»