أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٤٧
بحكم الظاهر، ويدل عليه قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) [الفرقان: 48] ومعناه مطهرا، فحيثما وجد فواجب أن يكون هذا حكمه، ولو منعنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهورا. ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا محمد بن عبيد الله عن الحسين بن سعد عن أبيه عن علي قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحت رأيت بذراعي قدر موضع الظفر لم يصبه الماء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو مسحت عليه بيدك أجزأك " فأجاز له أن يمسح عليه بعد تراخي الوقت ولم يأمره باستيناف الطهارة. وروى عبد الله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح، فقال: " ويل للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء! " ويدل عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تتم صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ".
والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه، لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن، ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق. ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر: " حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه " ولم يذكر فيه التتابع، فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة.
فإن قيل: لما كان قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) أمرا يقتضي الفور وجب أن يكون مفعولا على الفور، فإذا لم يفعل استقبل إذ لم يفعل المأمور به. قيل له:
الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة، ألا ترى أن تارك الوضوء رأسا لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي؟ وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها، وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلا على صحة قولنا أولى، وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صح عندنا جميعا وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته، لأن في إيجاب إبطاله عن الفور وإيجاب فعله على التراخي، فواجب أن يكون مقرا على حكمه في صحة فعله بديا على الفور.
واحتج أيضا القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال:
" هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به " قالوا: ومعلوم أن فعله كان على وجه المتابعة. قيل له: هذا دعوى، ومن أين لك أنه فعله متتابعا؟ وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حكم جواز فعله متفرقا، وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع، لأن قوله: " هذا وضوء " إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان.
(٤٤٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 442 443 444 445 446 447 448 449 450 451 452 ... » »»