أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٤٠
الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فأهويت إلى خفيه لأنزعهما، فقال:
" مه! فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان " فمسح عليهما. وروي عن عمر بن الخطاب قال: " إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ". ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء، كما يقال: غسل رجليه، وكما يقال:
صلى ركعة، وإن لم يتم صلاته. وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح، لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه.
واختلف في المسح على الجوربين، فلم يجزه أبو حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين. وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين. وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين. وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح: " يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين ". والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا، فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين لما أجزنا المسح، فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها، ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجوربين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه.
فإن قيل: روى المغيرة بن شعبة وأبو موسى: " أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه ". قيل له: يحتمل أنهما كانا مجلدين، فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم حاله. وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث، كما مسح على رجليه وقال: " هذا وضوء من لم يحدث ". ومن جهة النظر اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة، إذ ليس في العادة المشي فيها، كذلك الجوربان. وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشى فيهما وبمنزلة الجرموقين، ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح؟ ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف.
واختلف في المسح على العمامة، فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعي: " لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار ". وقال الثوري والأوزاعي:
" يمسح على العمامة ". والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: (فامسحوا برؤوسكم) وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته، وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به. وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس، فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين، فلما لم
(٤٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 435 436 437 438 439 440 441 442 443 444 445 ... » »»