أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٤٥٥
آمنوا، وقوله تعالى: (ثم الله شهيد) [يونس: 46] ومعناه: والله شهيد، وكما تجئ " أو " بمعنى " الواو " كقوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) [النساء: 135] ومعناه: إن يكن غنيا وفقيرا، فكذلك لا يمتنع أن يريد بالواو الترتيب فتكون مجازا ولا يجوز حملها عليه إلا بدلالة.
مطلب: في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج فإن قيل: سئل ابن عباس وقيل له: كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول: (وأتموا الحج والعمرة لله) [البقرة: 196]؟ فقال: كيف تقرؤون الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين؟ قالوا: الوصية، قال: فبأيهما تبدؤون؟ قالوا: بالدين، قال: فهو ذاك. فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك. قيل له: كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه، وهو قوله: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) [البقرة: 196]؟
وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه، فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) [البقرة:
196]، وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة، وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان، وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل، أو قول هذا السائل؟ فلو لم يكن في اسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا.
فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ابدؤوا بما بدأ الله به "، وقال تعالى:
(إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) [القيامة: 17 و 18] فقوله: " ابدؤوا بما بدأ الله به " أمر يقتضي التبدئة مما بدأ الله به في اللفظ والحكم، وقوله عز وجل:
(فاتبع قرآنه) [القيامة: 18] لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك. قيل له:
أما قوله: " ابدؤوا بما بدأ الله به " فإنما ورد في شأن الصفا والمروة، فذكر بعضهم القصة على وجهها، وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم: " ابدؤوا بما بدأ الله به "، وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي صلى الله عليه وسلم القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك. وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به، وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ، فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به. وكذلك الجواب في قوله: (فاتبع قرآنه) [القيامة: 18] لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه، وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو
(٤٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 450 451 452 453 454 455 456 457 458 459 460 ... » »»