أحكام القرآن - الجصاص - ج ٢ - الصفحة ٣٠٤
شاهره، فقال الشاذ: إني مسلم، فضربه فقتله، فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال فيه قولا شديدا، فقال القاتل: يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا تعرف المساءة في وجهه، وقال: " إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا " ثلاث مرات. قال أبو بكر: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان المقتول ولم يوجب على قاتله الدية، لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: حدثنا أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا، فأدركنا رجلا، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فضربناه حتى قتلناه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ " فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح، قال: " أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ " فما زال يقولها حتى أني وددت أني لم أسلم إلا يومئذ.
وهذا الحديث أيضا يدل على ما قلنا لأنه لم يوجب عليه شيئا وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم، لأن النبي عليه السلام قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا. وأما قول مالك إن قوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم) إن مت كان حكما لمن أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) [الأنفال: 75]، فإنه دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة، وليس في نسخ التوارث بالهجرة وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم، بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق له بالميراث. وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا، وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر، فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون بأسباب أخر، فلو كان الأمر على ما قال مالك لوجب أن تكون ديته واجبة لمن لم يهاجر من أقربائه، لأنه معلوم أنه لم يكن ميراث من لم يهاجر مهملا لا مستحق له، فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقي على حكم الحرب لا قيمة لدمه، وقوله تعالى: (فإن كان من قوم عدو لكم) يفيد أنه ما لم يهاجر فهو من أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه وإن كان دمه محظورا، إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو صقع، فنسبه الله إليهم بعد
(٣٠٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 299 300 301 302 303 304 305 306 307 308 309 ... » »»