أخذها سطحيا من أفواه الرجال كما يأخذ الأمي من السن العامة لزاد عليها أضعاف خرافاتها وكفرها كما تستلزمه وتوجبه أميته وتربيته وجهل قومه وبلاده ووحشيتهم ووثنيتهم لكن (إن هو إلا وحى يوحى) إلى رسول لا تأخذه في تبليغ الحقائق لومة لائم أو مخالفة أمم. فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من الرحلة المدرسية (1) وعلى هذا النحو يجرى الكلام فيما ذكر في العهد القديم الذي يعده أهل الكتاب من الوحي الصادق حيث نسب إلى أيوب أشفع الاعتراض على الله والجزع من قضائه ونسبة الظلم إليه جل وعلا وطلب المحاكمة معه حتى أنه صار يوبخ واعظيه والناهين له عن هذه الجرأة ويسفه رأيهم. ونسب الزنى إلى داود بأشنع وجه. ونسب إلى سليمان أنه تمادى في تأييد الشرك بالله والعبادة الأوثانية وكثر منه بناء المباني لعبادة الأوثان. وقد كثرت مصائب الأناجيل في القدح بقدس المسيح مع صغر حجمها وقلة مكتوبها فنسبت إلى قدسه شرب الخمر وتكرر الكذب والأحوال المنافية للعفة وانتهاره لوالدته وقدحه في قداستها والقول بتعدد الآلهة والأرباب وغير ذلك مما سنشير إليه. وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله بوحي قرآنه منزها لهؤلاء الأنبياء ومبرءا لهم عن هذه الوصمات الشنيعة فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى (2) وعلى هذا النحو يجرى الكلام أيضا فيما ذكر في التوراة والعهد القديم من القصص الخرافية المنافية لجلال الله وقدس أنبيائه وشرفهم وشرف عائلاتهم كما في خرافات اختباء آدم عن الله. وبرج بابل. وشأن لوط مع الخمر وابنتيه والمصارعة مع يعقوب ومخادعة يعقوب لأبيه وتكرر كذبه عليه. وقصة يهوذا معن كنته ثامارا وولادة سبط يهوذا الذي منهم داود وسليمان وكثير من الأنبياء. وقصة أمنون بن داود وابن عمه مع أخته ثامارا وملاعب شمشون. ومشورة الله جل شأنه مع جند السماء في إغواء آخاب ملك إسرائيل (3) وكثير من ذلك.
ولاجل أن القرآن الكريم كلام الله القدوس ووحيه لم يذكر شيئا من ذلك ولو كان من اختلاق رسول لله (ص) كما يزعم الظالمون لامتنع في العادة على البشرية وأغراضها وتزلفاتها أن لا يذكر شيئا من ذلك مع ما فيها من القعقعة التاريخية. وأن البشر الذي يتطلب قصص العهدين ويذكرها في كلامه وأغراضه لا يفوته ما أشرنا إليه.
" إعجازه في وجهة الاحتجاج " نهض رسول الله صلى الله عليه وآله لتعليم البشر وتنوير بصائرهم في عص الظلمات والجهل والعمى. ولارشادهم إلى حقائق المعارف التي حجتها ظلمات الضلال المتراكبة في تلك العصور المظلمة تلك الظلمات التي استولت على أرجاء العالم بحيث لم تدع أن ينقدح من نور الحق للعقول المغلوبة أقل بصيص فجاء (ص) في قرآنه بكثير غزير من الحج الساطعة على أهم المعارف وأشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج وأعمه نفعا في الاحتجاج والتعليم. جاء بها على أرقى نحو يستلفت العامي إلى نور الغريزة الفطرية فيمثله لشعوره. وإلى سناء البديهيات فيجعلوه لادراكه. ويجرى بمؤدى تلك الحج مع الفيلسوف في قوانين المنطق وتنظيم قياساته على أساسيات المعقول. فاحتج على وجود الاله ولوازم إلهيته. وعلمه وقدرته. وتوحيده وعلى المعاد الجسماني وعلى أن القرآن وحي الهي. وعلى صدق الرسول في دعوته فلا يكاد يوجد في شئ من هذه الحج خلل عرفاني أو وهن أدبى أو شائبة اختلاف أو شائبة من تناقض.
فإذا فرضت أي بشر يكون في ذلك العصر المظلم ومثلث نشأته وتربيته بين الاعراب الوحشيين الوثنيين في تلك البلاد الماحلة من كل تعليم والقاحلة من كل فضيلة في المعارف وأنه لم يتعاط تعلما ولا تأدبا على معلم ولا قراءة مكتوب ولا دراسة كتاب علمت أن يمتنع عليه في العادة بما هو بشر وبلا وحي الهي إليه أن يأتي ببيان المعارف الصحيحة