تفسير شبر - السيد عبد الله شبر - الصفحة ١٠
فيها من حضارة الكاتب والشاهد. ونهت عن أن يحملا من أجل الكتابة والشهادة وأدائها ضرر المشقة والعناء وتضييع وقت أكثر من الوقت الطبيعي لمحض الأداء. وفى ذلك عبرة لأولي الألباب.
وإليك فانظر ما في القرآن الكريم من الشرائع والقوانين العامة والخاصة واعتبر بكرامتها ومجدها في التشريع الفائق والاصلاح الحميد. ولا تحتاج معرفة مجدها وكرامتها إلى المقايسة والاعتبار بشرائع قطره وقومه تلك الشرائع الجائرة الوحشية الوثنية. نعم تزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة التي يعتبرها اليهود والنصارى في أجيالهم في أكثر من خمسة وعشرين قرنا ويعدونها كتاب وحي إلهي مقدس فانظر فيما فيها من شريعة تقديس هارون وبنيه وتفصيل ثيابهم وأوضاعها. وشريعة قتل الأطفال والنساء من البلاد المفتوحة بالحرب. فإنك تعرف أن هذه الشرائع لا تكون إلا من بشر سخيف قاس وتزداد بصيرة بمجد القرآن الشريف في تشريعه وأنه لا يكون إلا من وحي الهي. وقد أشير إلى شئ مما ذكرنا في أواخر الجزء الثاني من كتاب الهدى صفحة 280 - 292 والجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة 29 و 79 - 82 وانظر إلى العهد الجديد وإلغائه لنظام المدنية والاخذ أمام الظلم والعدوان بحيث ترك العالم بلا نظام رادع ولا شريعة تأديب عادلة فإنك تزداد بصيرة بأن المتقول على الوحي في أمر التشريع لا بد له من أن يسقط تشوه التاريخ وتئن منها الحقائق جزعا. فاعرف إذن إعجاز القرآن في تشريعه الممتاز بفضيلة الوحي الإلهي.
إعجازه من وجهة الاخلاق وإذا نظرت إلى ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل في الأمة وسوء الاعمال وعدم الدراسة في العلم أو التخرج في الفضيلة على الحكماء الصالحين فإنك ترى هذه الامر لها أثر كبير في الجهل بالأخلاق الفاضلة والانحراف عن جادتها والخبط في معرفتها وتمييز جدودها. فلا ترد البشر إلى الاستقامة في ذلك تكلفات الفكر المحاط بالجهل العام والجليل المظلم والقطر الوبئ من نزعات الأهواء. ولئن حاول الرجل المريد للصلاح حينئذ شيئا من تهذيب الاخلاق لم يهتد السبيل في قوله وعمله إلى إلا شئ يشير إليه التداول بين جملة من الناس. ولئن تكلف المتفلسف شيئا من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطا غلب فيه الجهل والزلل وتتابعت فيه العثرات.
ومن بين تلك الظلمات المذكورة بزغ القرآن الكريم بأنواره وأتى بما لا تسمح به العادة بأن يأتي به في ذلك الظلمات بشر من عند نفسه وتقولا على الوحي فجاء في إجماله وتفصيله مستقصيا للأخلاق الفاضلة على حدودها بالحث على التزين بها بما توجه الحكمة من البعث والترغيب. ومحصيا للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوث بها بما يوجبه الاصلاح من الارهاب والتنفير. وأقام لذلك في العالم أشرف مدرسة زاهرة وأعلا فلسفة مرشدة وأبلغ خطابة واعظة. وإليك بعضا من جوامعه في ذلك كقوله تعالى في سورة النحل: 90 إن شاء يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ومن سورة الفرقان ما في الآية الرابعة والستين إلى الخامسة والسبعين ومن سورة المعارج ما في الآية الثالثة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين. ومن سورة الحجرات ما في الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. وغير ذلك مما لا يكاد أن تخلو منه سورة أو يتخطا تعليم أو يحابى به قوم دون قوم أو يتجاوز بالافراط إلى التفريط والاخلال بنظام المدنية وراحة الاجتماع.
ولك العبرة بأن التوراة الرائجة فيها وشل من تعاليم التوراة الحقيقة ولكن لأنها تلفيق واختلاق بشرى كدرت ما فيها من ذلك الوشل وذهبت بصفاء التعليم الإلهي. فأمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم ونتهم عن الحقد على أبناء شعبهم وعن السعي بالوشاية وعن شهادة الزور على قريبهم. وأن يعذر أحدهم بصاحبه. ويا للأسف على شرف هذا الامر والنهى إذ شوهت جماله بتخصيص تعليمها لبنى إسرائيل وبتخصيص المأمور به والمنهى عنه بالقريب والشعب والصاحب.
(١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 ... » »»