تفسير شبر - السيد عبد الله شبر - الصفحة ٤
وينتظم أمره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلالة الله وقدسه في مثل هذه المزلفة أن يظهر المعجز وعنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره. فإن إظهار المعجز حينئذ يكون مساعدة للمدلس على تدليسه ومشاركة له في إغوائه وإغراء للناس في الجهل الضار المهلك. وذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فلمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواه ودعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام والوجه.
" حكمة تنوع المعجز " ولا يخفى أن حصول الفائدة المذكورة من تنوع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب اختلاف الناس في أطوارهم ومعارفهم ومألوفاتهم. فرب خارق للعادة يعرف بعض الشعوب أنه خارق للعادة يعرف بعض الشعوب أنه خارق للعادة لا يكون إلا بإرادة إلهية خاصة ويكون في بعض الشعوب معرضا للشك أو الجحود لاعجازه وخرقه للعادة.
كان في عصر موسى النبي (ع) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجرى عليها التعليم والتعلم. فكانوا يعرفون ما هو جاز على نواميس هذه الصناعة وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة البشرية.
ولاجل ذلك اقتضت الحكمة أن يحتج عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون ويسحرون به الناس من الحبال والعصى ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول ولم يبق لحبالهم وعصيهم عين ولا أثر فإنهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أن أمر العصا خارج عن صناعة السحر وعن حدود القدرة البشرية ولذا آمن السحرة بأن أمرها من الله تعالى.
وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطب فيها رواج ظاهر وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع والبرص والقوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم أنه من بركات الكهنة والآثار الروحية وإن كان من نحوا الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص والأعمى والأكمه مما يعرفون أنه خارج عن حدود الطب ومزاعم الكهنة وقدرة البشر ومن خارق العادة التي لا يكون إلا بقدرة الله تعالى.
" حكمة كون المعجزة للعرب هو القرآن " وأما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الاسلام في حكمة سيرها في اصلاح فقد كانت معارفهم نوعا منحصرة بالأدب العربي وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم والتعلم وأسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث والممارس والمتعلم والمجرب والمكتشف والداخلة تحت سيطرة العلم والتعلم. فلا يعرفون من الاعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ولا يكون إلا باعجاز إلهي. فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له أو سماعهم به يسبق إلى أذهانهم ويستحكم ولا يذعنون بأنه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل إلى الجحود خصوصا إذا كان ذلك يحتج به النبي على دعوى ودعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشية وأهواء الجهل.
نعم برعوا بالأدب العربي وبلاغة الكلام التي تقدموا فيها تقدما باهرا حتى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل وأينعت حدائقه وفاق بحده، وقرروا له المراسم وعقدوا المحافل للمفاخرة بالرقى فيه. فرقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها وأحاطوا بأطرافها وحدودا مقدورها. فعاد المرء منهم جد خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشرية وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداءا إلا بعناية إلهية خاصة خارقة للعادة البشرية لحكمة إلهية شريفة.
(٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... تقديم 6 تقديم 7 1 2 3 4 5 6 7 8 9 ... » »»