ولك العبرة أيضا بأن الأناجيل الرائجة قد أفرطت بتصوفها البارد فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم وقطع مادة الفساد بالحدود الشرعية ودفاع الظالمين. بل علمت: بأن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضا ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا. ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه.
إعجازه في وجهة علم الغيب وقد تقرر في القرآن معجزة في إخباره بالغيب إخبارا يقتضي التكهن. والفراسة خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر. وطغيان الشرك وضعف الدعوة الاسلامية وما يحرى من النكال والتشريد والجفاء على ملبيها. فمن ومعارضيها كان ذلك عند طغيان الشرك واستفحاله وهيجان المشركين على رسول الله 94 فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 95 إنا كفيناك المستهزئين 96 الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون وقد كفاه الله أشرف كفاية لم تكن تعلق بها الآمال بحسب العادة. وقد بان للمشركين وعلموا ما في قوله تعالى في آخر الآية فسوف يعلمون وقوله في سورة الصف المكية في الحال الذي وصفناه من طغيان الشرك والمشركين 9 هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون فأظهره على الدين أعز إظهار أرغمت به آناف المشركين. ومن الاخبار بالغيب قوله تعالى في سورة الروم: غلبت الروم 2 في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون 3 في بضع سنين فغلبت الروم فارس ودخلت مملكتها قبل مضى عشر سنين. وقوله تعالى في سورة تبت في شأن أبى لهب وامرأته: سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جديها حبل من مسد، وهو إخبار بأنهما يموتان على الكفر ولا يحظيان بسعادة الاسلام الذي يكفر عنهما آثام الشرك ويحط أوزاره. فماتا على الكفر كما أخبر به إخبارا حتميا.
ولك العبرة في ذلك بأن إنجيل متى ذكر إخبارا واحدا غيبيا للمسيح. وهو أنه يبقى مدفونا في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. ولكن ما برح إنجيل متى أن كذب في أواخره هذا الاخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الأخر على أن المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفنها ودفنها وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت وخرج عن قبره. وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد وذلك نهار وليلتان.
هذا وإني عند مقايستي للقرآن الكريم بما نسبت إلى الوحي الإلهي من كتب الأمم المتدينة ومنهم البراهمة والبوذيون وغيرهم لم يحضر عندي إلا كتب العهدين فلا ينبغي أن يجعل مقايستي بهما تحاملا على خصوص اليهود والنصارى.
ولى العذر في ذلك فإنه لا يصح للانسان أن تأخذه في خدمة الحق وإيضاح الحقيقة وتأييدها لومة لائم أو يصده عذل عاذل، فإن خدمة الحق نصرة للبشر جميعا والله المستعان.
هذا شئ قليل من البيان في الوجهات المذكورة إذ لا يسع هذا المختصر أكثر من ذلك.
وهب أن الوساوس تتقحم على الحقائق وتغالط الأذهان بواهيات الشكوك في الاعجاز ببعض آحادها ولكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها. وهل يسوغ لذي الشعور أن يختلج في ذهنه الشك في إعجاز الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة وخروجه عن طوق البشر مطلقا وخصوصا في ذلك العصر وتلك الأحوال وهل يسمع عقله إلا بأن يقول: (إن هو إلا وحى يوحى).