تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ١٦ - الصفحة ١٣٢
قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها الا العالمون) يشير إلى أن الأمثال المضروبة في القرآن على أنها عامة تقرع أسماع عامة الناس، لكن الاشراف على حقيقة معانيها ولب مقاصدها خاصة لأهل العلم ممن يعقل حقائق الأمور ولا ينجمد على ظواهرها.
والدليل على هذا المعنى قوله: (ولا يعقلها) دون أن يقول: وما يؤمن بها أو ما في معناه.
فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لاحظ له منها الا تلقى ألفاظها وتصور مفاهيمها الساذجة من غير تعمق فيها وسبر لأغوارها، ومن سامع يتلقى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثم يغور في مقاصدها العميقة ويعقل حقائقها الأنيقة.
وفيه تنبيه على أن تمثيل اتخاذهم أولياء من دون الله باتخاذ العنكبوت بيتا هو أوهن البيوت ليس مجرد تمثيل شعري ودعوى خالية من البينة بل متك على حجة برهانية وحقيقة حقه ثابتة وهي التي تشير إليه الآية التالية.
قوله تعالى: (خلق الله السماوات والأرض بالحق ان في ذلك لآية للمؤمنين) المراد بكون خلق السماوات والأرض بالحق نفى اللعب في خلقها، كما قال تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) الدخان: 39.
فخلق السماوات والأرض على نظام ثابت لا يتغير وسنة الهية جارية لا تختلف ولا تتخلف، والخلق والتدبير لا يختلفان حقيقة ولا ينفك أحدهما عن الاخر (1)، وإذ كان الخلق والصنع ينتهى إليه تعالى انتهاء ضروريا ولا محيص فالتدبير أيضا له ولا محيص وما من شئ غيره تعالى الا وهو مخلوقه القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ومن المحال قيامه بشئ من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقل به مستغنيا

(1) وذلك أن موطن التدبير الحوادث الجارية في الكون ومعناه تعقيب حادث بحادث آخر على نظم وترتيب يؤدى إلى غايات حقة وحقيقته خلق حادث بعد حادث فالتدبير هو الخلق والايجاد باعتبار قياس الشئ إلى آخر مثله وانضمامه إليه فليس وراء الخلق والايجاد شئ منه.
(١٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 127 128 129 130 131 132 133 134 135 136 137 ... » »»
الفهرست