وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الأنبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف انسانية تهدي إليها الفطرة الانسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعه.
وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب - وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه.
ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - وليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ولعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعال لكنه ليس بواقع البتة لأنه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: " وما كنا ظالمين " الآية 209 من السورة، وقوله:
" إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس: 44، وقوله: " وما ربك بظلام للعبيد " فصلت: 46، وقوله: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاع الموضوع كما يومي إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما.
فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لأنه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لأنه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله.
على أنه قيل: إن الاثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لان العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشئ.
قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لأنه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل.