به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها ومنالها.
وما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع والعذاب الشديد وقطع دابر الحياة الدنيا وهو يرى أن ليس للانسان إلا الحياة التي فيها وفيها سعادته وشقاؤه فإنهم يرون الامر بالعكس من ذلك وأن للانسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا وإن شقي فيها فلا ينفعه شئ.
وعلى ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، وذلك قولهم لفرعون - وهو جواب تهديده إياهم بالقتل - " فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل وتوضيح لقولهم: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ".
وفي قولهم: " ما جاءنا من البينات " تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا وتلقفها الحبال والعصي ورجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، ويمكن أن يكون " من " للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحده وآمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة ولا يخلو من بعد.
قوله تعالى: إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى " الخطايا جمع خطيئة وهي قريبة معنى من السيئة، وقوله: " وما أكرهتنا عليه " معطوف على " خطايانا " و " من السحر " بيان له والمعنى وليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه وفيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم وإما حين تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى فحملوا على المقابلة والمغالبة. وأول الآية تعليل لقولهم: " لن نؤثرك " الخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك وآمنا به ليغفر لنا خطايانا والسحر الذي أكرهتنا عليه، وذيل الآية: " والله خير وأبقى " من تمام البيان وبمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: " وإنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير وأبقى، أي خير من كل خير وأبقى من كل باق - لمكان الاطلاق - فلا يؤثر عليه شئ وفي هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: " ولتعلمن أينا أشد عذابا وابقى ".