فقوله: " وربك الغفور ذو الرحمة " صدرت به الآية المتضمنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجل فيقضى ويمضى أصل العذاب أداء لحق مقتضيه وهو عملهم، ويؤخر وقوعه لان الله غفور ذو رحمة.
فالجملة أعني قوله: " الغفور ذو الرحمة " مع قوله: " لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب " بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي وقوله: " بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا " أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلي الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين ومراعاة الحقين فاعطي وصف الانتقام الإلهي باستدعاء مما كسبوا أصل العذاب وأعطيت صفة المغفرة والرحمة أن يؤجل العذاب ولا يعجل، وعند ذلك أخذت المغفرة الإلهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب، والرحمة تفيض عليهم حياة معجلة.
ومحصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لأنه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعدا لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله:
" بل لهم موعد " الخ كلمة قضاء وليس بحكاية محضة وإلا قيل: بل جعل لهم موعدا الخ فافهم ذلك.
والغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة وذو الرحمة - ولامه للجنس - صفة تدل على شمول الرحمة لكل شئ فهي أشمل معنى من الرحمان والرحيم الدالين على الكثرة أو الثبوت والاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور السعي وكثرة العمل ولذي الرحمة الانبساط والشمول على ما لا مانع عنده، ولهذه النكتة جئ في المغفرة بالغفور وهو صيغة مبالغة وفي الرحمي بذي الرحمي الحاوي لجنس الرحمي فأفهم ذلك ودع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.
قوله تعالى: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " المراد بالقرى أهلها مجازا بدليل الضمائر الراجعة إليها، ولمهلك بكسر اللام اسم زمان.
ومعنى الآية ظاهر وهي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم وتأجيله ليس ببدع منا