هذا ما للانسان بالقياس إلى أمثاله من بنى نوعه، وأما بالقياس إلى العلل والأسباب الكونية التي أوجدت الطبيعة الانسانية فلا حرية له قبالها فإنها تملكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلبه ظهرا لبطن، وهى التي بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالانسان ما فعلت فأظهرته على ما هو عليه من البنيان والخواص من غير أن يكون له الخيرة من أمره فيقبل ما يحبه ويرد ما يكرهه بل كان كما أريد لا كما أراد حتى أن أعمال الانسان الاختيارية وهى ميدان الحرية الانسانية إنما تطيع الانسان فيما أذنت فيه هذه العلل والأسباب فليس كل ما أحبه الانسان وأراده بواقع ولا هو في كل ما اختاره لنفسه بموفق له، وهو ظاهر.
وهذه العلل والأسباب هي التي جهزت الانسان بجهازات تذكره حوائجه ونواقص وجوده، وتبعثه إلى أعمال فيها سعادته وارتفاع نواقصه وحوائجه كالغاذية مثلا التي تذكره الجوع والعطش وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشبع والري وهكذا سائر الجهازات التي في وجوده.
ثم إن هذه العلل والأسباب أوجبت إيجابا تشريعيا على الانسان الفرد أمورا ذات مصالح واقعية لا يسعه إنكارها ولا الاستنكاف بالاستغناء عنها كالاكل والشرب والايواء والاتقاء من الحر والبرد والدفاع تجاه كل ما يضاد منافع وجوده.
ثم أفطرته بالحياة الاجتماعية فأذعن بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي والمدني والسير في مسير التعاون والتعامل، ويضطره ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرية من جهتين:
إحداهما: أن الاجتماع لا يتم من الفرد إلا بإعطائه الافراد المتعاونين له حقوقا متقابلة محترمة عنده ليعطوه بإزائها حقوقا يحترمونها وذلك بأن يعمل للناس كما يعملون له، وينفعهم بمقدار ما ينتفع بهم، ويحرم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يحرمهم فليس له ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بل هو حر فيما لا يزاحم حرية الآخرين، وهذا حرمان عن بعض الحرية للحصول على بعضها.
وثانيتهما: أن المجتمع لا يقوم له صلب دون ان يجرى فيه سنن وقوانين يتسلمها الافراد المجتمعون أو أكثرهم تضمن تلك السنن والقوانين منافعهم العامة بحسب