تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٨ - الصفحة ٨٣
بل أقول: إن بعض الأمم الوثنية ذات الحضارة والعلوم والفنون كان يغلب فيها معيشة العرى حتى إذا ما اهتدى بعضهم بالاسلام صاروا يلبسون ويتجملون ثم صاروا يصنعون الثياب وقلدهم جيرانهم من الوثنيين بعض التقليد.
هذه بلاد الهند على ارتقاء حضارة الوثنيين فيها قديما وحديثا لا يزال ألوف الألوف من نسائهم ورجالهم عراة أو أنصاف أو أرباع عراة فترى بعض رجالهم في معاهد تجارتهم وصناعتهم بين عار لا يستر إلا السوأتين - و يسمونهما " سبيلين " وهي الكلمة العربية التي يستعملها الفقهاء في باب نواقض الوضوء - أو ساتر لنصفه الأسفل فقط وامرأة مكشوفة البطن والفخذين أو النصف الا على من الجسم كله أو بعضه، وقد اعترف بعض علمائهم المنصفين بأن المسلمين هم الذين علموهم لبس الثياب، والاكل في الأواني ولا يزال أكثر فقرائهم يضعون طعامهم على ورق الشجر ويأكلون منه، ولكنهم خير من كثير من الوثنيين سترا وزينة لان المسلمين كانوا حكامهم، وقد كانوا ولا يزالون من أرقي مسلمي الأرض علما وعملا وتأثيرا في وثني بلادهم.
وأما المسلمون في بلاد الشرق التي يغلب عليها الجهل فهم أقرب إلى الوثنية منهم إلى الاسلام في اللباس وكثير من الأعمال الدينية، ومنهم نساء مسلمي " سيام " اللاتي لا ترين في أنفسهن عورة إلا السوأتين كما بين هذا من قبل فحيث يقوى الاسلام يكون الستر والزينة اللائقة بكرامة البشر ورقيهم.
فمن عرف مثل هذا عرف قيمة هذا الأصل الاصلاحي في الاسلام ولولا أن جعل هذا الدين المدني الاعلى أخذ الزينة من شرع الله أوجبه على عباده لما نقل أمما وشعوبا كثيرة من الوحشية الفاحشة إلى المدنية الراقية، وإنما يجهل هذا الفضل له من يجهل التاريخ وإن كان من أهله بل لا يبعد أن يوجد في متحذلقة المتفرنجين من يجلس في ملهى أو مقهى أو حانة متكئا مميلا طربوشه على رأسه يقول: ما معنى جعل أخذ زينة اللباس من أمور الدين؟ وهو من لوازم البشر لا يحتاجون فيه إلى وحي إلهي ولا شرع ديني، وقد يقول مثل هذا في قوله تعالى: " كلوا واشربوا " انتهى.
ومما يناسب المقام ما روي: أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال ذات يوم لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شئ، والعلم علمان: علم
(٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 ... » »»
الفهرست