ثم يذكر بالاستفهام الانكاري أن إباحة زينة الله والطيبات من الرزق مما لا ينبغي أن يرتاب فيها فهو من إمضاء الشرع لحكم العقل والقضاء الفطري.
وإباحة الزينة وطيبات الرزق لا تعدو مع ذلك حد الاعتدال فيها والوسط العدل بين الافراط والتفريط فإن ذلك هو الذي يقضي به الفطرة، وقد قال الله سبحانه في الآية السابقة: " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " وقال فيما قبل ذلك: " قل أمر ربي بالقسط ".
ففي التعدي إلى أحد جانبي الافراط والتفريط من تهديد المجتمع الانساني بالانحطاط، وفساد طريق السعادة ما في انثلام ركن من أركان البناء من تهديده بالانهدام فقلما ظهر فساد في البر والبحر وتنازع يفضي إلى الحروب المبيدة للنسل المخربة للمعمورة إلا عن إتراف الناس وإسرافهم في أمر الزينة أو الرزق، وهو الانسان إذا جاوز حد الاعتدال، وتعدى ما خط له من وسط الجادة ذهب لوجهه لا يقف على حد ولا يلوي على شئ فمن الحري أن لا يرفع عنه سوط التربية ويذكر حتى بأوضح ما يقضي به عقله، ومن هذا القليل الامر الإلهي بضروريات الحياة كالاكل والشرب واللبس والسكنى وأخذ الزينة.
قال صاحب المنار في بعض كلامه - وما أجود ما قال: - وإنما يعرفها - يعني قيمة الامر بأخذ الزينة مع بساطته ووضوحه - من قراء تواريخ الأمم والملل، وعلم أن أكثر المتوحشين الذين يعيشون في الحرجات والغابات أفرادا وجماعات يأوون إلى الكهوف والمغارات، والقبائل الكثيرة الوثنية في بعض جزائر البحار وجبال إفريقيا كلهم يعيشون عراة الأجسام نساء ورجالا، وأن الاسلام ما وصل إلى قوم منهم الا وعلمهم لبس الثياب بإيجابه للستر والزينة إيجابا شرعيا.
ولما أسرف بعض دعاة النصرانية الأوروبيين في الطعن في الاسلام لتنفير أهله منه وتحويلهم إلى ملتهم ولتحريض أوربا عليهم رد عليهم بعض المنصفين منهم فذكر في رده أن في انتشار الاسلام في إفريقيا منة على أوربا بنشره للمدنية في أهلها بحملهم على ترك العرى وإيجابه لبس الثياب الذي كان سببا لرواج تجارة النسج الأوروبية فيهم.