تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٨ - الصفحة ٢٩
قلت: إنما المتبع هو الدليل فربما دل على ثبوتها وعلى صراحتها ونصوصيتها كالمعارف الأصلية والاعتقادات الحقة وقصص الأنبياء والأمم في دعواتهم الدينية والشرائع والأحكام وما تستتبعه من الثواب والعقاب ونظائر ذلك، وربما دل الدليل وقامت شواهد على خلاف ذلك كما في القصة التي نحن فيها، ومثل قصة الذر وعرض الأمانة وغير ذلك مما لا يستعقب إنكار ضروري من ضروريات الدين، ولا يخالف آية محكمة ولا سنة قائمة ولا برهانا يقينيا.
والذي ذكره إبليس في مقام الاحتجاج: " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " من القياس وهو استدلال ظني لا يعبأ به في سوق الحقائق، وقد ذكر المفسرون وجوها كثيره في الرد عليه لكنك عرفت أن القرآن لم يعتن بأمره، وإنما آخذ الله إبليس باستكباره عليه في مقام ليس له فيه إلا الانقياد والتذلل، ولذلك أغمضنا عن التعرض لما ذكروه.
قوله تعالى: " قال اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " التكبر هو أخذ الانسان مثلا الكبر لنفسه وظهوره به على غيره فإن الكبر والصغر من الأمور الإضافية ويستعمل في المعاني غالبا فإذا أظهر الانسان بقول أو فعل أنه أكبر من غيره شرفا أو جاها أو نحو ذلك فقد تكبر عليه وعده صغيرا، وإذ كان لا شرف ولا كرامة لشئ على شئ إلا ما شرفه الله وكرمه كان التكبر صفة مذمومة في غيره تعالى على الاطلاق إذ ليس لما سواه تعالى إلا الفقر والمذلة في أنفسهم من غير فرق بين شئ وشئ ولا كرامة إلا بالله ومن قبله، فليس لأحد من دون الله أن يتكبر على أحد، وإنما هو صفة خاصة بالله سبحانه فهو الكبير المتعال على الاطلاق فمن التكبر ما هو حق محمود وهو الذي لله عز اسمه أو ينتهي إليه بوجه كالتكبر على أعداء الله الذي هو في الحقيقة اعتزاز بالله، ومنه ما هو باطل مذموم وهو الذي يوجد عند غيره بدعوى الكبر لنفسه لا بالحق.
و " الصاغرين " جمع صاغر من الصغار وهو الهوان والذلة والصغار في المعاني كالصغر في الصور، وقوله: " فاخرج إنك من الصاغرين " تفسير وتأكيد لقوله " فاهبط منها " لان الهبوط هو خروج الشئ من مستقره نازلا فيدل ذلك على أن
(٢٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 ... » »»
الفهرست