تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٨ - الصفحة ٣٣
والشاكرون هم الذين استقرت فيهم صفة الشكر على الاطلاق فلا يمسون نعمة إلا بشكر أي بأن يستعملوها ويتصرفوا فيها قولا أو فعلا على نحو يظهرون به أنها من عند ربهم المنعم بها عليهم فلا يقبلون على شئ - أعم من أنفسهم وغيرهم - إلا وهم على ذكر من ربهم قبل أن يمسوه ومعه وبعده، وأنه مملوك له تعالى طلقا ليس له من الامر شئ فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلا بالله، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
فلو أعطي اللفظ حق معناه لكان الشاكرون هم المخلصين، واستثناء إبليس الشاكرين أو المخلصين من شمول إغوائه وإضلاله جرى منه على حقيقة الامر اضطرارا ولم يأت به جزافا أو امتنانا على بني آدم أو رحمة أو لغير ذلك.
فهذا ما واجه إبليس به مصدر العزة والعظمة أعني قوله: " فبما أغويتني لاقعدن لهم صراطك المستقيم - إلى قوله - ولا تجد أكثرهم شاكرين " فأخبر أنه يقصدهم من كل جهة ممكنة، ويفسد الامر على أكثرهم بإخراجهم عن الصراط المستقيم، ولم يبين نحو فعله وكيفية صنعه.
لكن في كلامه إشارة إلى حقيقتين: أحداهما: أن الغواية التي تمكنت في نفسه وهو ينسبها إلى صنع الله هي السبب لا ضلاله وإغوائه لهم أي أنه يمسهم بنفسه الغوية فلا يودع فيهم إلا الغواية كالنار التي تمس الماء بسخونتها فتسخنه، وهذه الحقيقة ظاهرة من قوله تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم - إلى أن قال - وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قالوا بل لم تكونوا مؤمنين - إلى أن قال - فأغويناكم إنا كنا غاوين " الصافات: 32.
والثانية: أن الذي يمسه الشيطان من بني آدم - وهو نوع عمله وصنعه - هو الشعور الانساني وتفكره الحيوي المتعلق بتصورات الأشياء والتصديق بما ينبغي فعله أو لا ينبغي، وسيجئ تفصيله في الكلام في إبليس وعمله.
قوله تعالى: " قال اخرج منها مذؤوما مدحورا لمن تبعك " (الخ) المذؤوم من ذامه يذامه ويذيمه إذا عابه وذمه، والمدحور من دحره إذا طرده ودفعه بهوان.
(٣٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 ... » »»
الفهرست