الامر المتوجه إلى جمع الملائكة وإن كان ظاهر قوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " أن الامر لم يكن إلا واحدا وهو الذي وجهه الله إلى الملائكة.
والذي يستفاد من ظاهر كلامه تعالى أن إبليس كان مع الملائكة من غير تميز له منهم والمقام الذي كان يجمعهم جميعا كان هو مقام القدس كما يستفاد من قصة ذكر الخلافة " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " البقرة: 30، وأن الامر بالسجود إنما كان متوجها إلى ذلك المقام أعني إلى المقيمين بذلك المقام من جهة مقامهم كما يشير إليه قوله تعالى في ما سيأتي: " قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها " والضمير إلى المنزلة أو إلى السماء أو الجنة ومالهما إلى المنزلة والمقام ولو كان الخطاب متوجها إليهم من غير دخل المنزلة والمقام في ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: " فما يكون لك أن تتكبر ".
وعلى هذا لم يكن بينه وبين الملائكة فرق قبل ذلك؟ وعند ذلك تميز الفريقان، وبقي الملائكة على ما يقتضيه مقامهم ومنزلتهم التي حلوا فيها، وهو الخضوع العبودي والامتثال كما حكاه الله عنهم: " بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " فهذه حقيقة حياة الملائكة وسنخ أعمالهم، وقد بقوا على ذلك وخرج إبليس من المنزلة التي كان يشاركهم فيها كما يشير إليه قوله: " كان من الجن ففسق عن أمر ربه " والفسق خروج التمرة عن قشرها فتميز منهم فأخذ حياة لا حقيقة لها إلا الخروج من الكرامة الإلهية وطاعة العبودية.
والقصة وإن سيقت مساق القصص الاجتماعية المألوفة بيننا وتضمنت أمرا وامتثالا وتمردا و احتجاجا وطردا ورجما وغير ذلك من الأمور التشريعية والمولوية غير أن البيان السابق على استفادته من الآيات يهدينا إلى كونها تمثيلا للتكوين بمعنى أن إبليس على ما كان عليه من الحال لم يقبل الامتثال أي الخضوع للحقيقة الانسانية فتفرعت عليه المعصية، ويشعر به قوله تعالى: " فما يكون لك أن تتكبر فيها " فإن ظاهره أن هذا المقام لا يقبل لذاته التكبر فكان تكبره فيه خروجه منه وهبوطه إلى ما هو دونه.
على أن الامر بالسجود - كما عرفت - أمر واحد توجه إلى الملائكة وإبليس