والذي ذكره من معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الأصلي بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذي يعطيه سياق الآيات إن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الأصلي وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: وجمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا.
وذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الإلهية، والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الإلهية، ويهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الأحوال، ولا بحسب الأزمان، ولا بحسب الاجزاء، ولا بحسب الاشخاص السائرين فيه، ولا بحسب المقصد.
وذلك أن صراطهم الذي هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الاجمال والتفصيل وقلة استعداد الأمم وكثرته، والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التي تهدى إليه البنية الانسانية بحسب نوع الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة الانسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضى بتبدل أصول الشعور والإرادة الانسانيين فحواس الانسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدء القضاء والحكم الذي فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجرى بحسب الأصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت الآراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذي يتعلق بالنوع والتنبه بجهات حوائج الحياة.
فلا يزال الانسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح ويشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، ويكره ما يؤلمه ويضربه، ويأمل سعادة الحياة ويخشى الشقاء وسوء العاقبة وأن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل.
قال تعال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30) فالدين الحنيف