خالية عن التفاصيل الواردة في الروايات والآثار على اختلافها الفاحش، غير مشوبة بالمشاجرات التي وقعت للباحثين من أهل التفسير على خلطهم تفسير الآيات بمضامين الروايات ومحتويات التواريخ وما اشتملت عليه التوراة وأخرى تشايعها من الإسرائيليات إلى غير ذلك، وبالجملة لحن كلامه عليه السلام في ما حكى عنه في هذه الآيات يشعر إشعارا واضحا بأنه كلام صادر عن ذهن صاف غير مملوء بزخارف الأفكار والأوهام المتنوعة أفرغته في قالب اللفظ فطرته الصافية بما عندها من أوائل التعقل والتفكير ولطائف الشعور والاحساس.
فالواقف في موقف النصفة من التدبر في هذه الآيات لا يشك أن كلامه المحكى عنه مع قومه أشبه شئ بكلام إنسان أولى فرضى عاش في سرب من أسراب الأرض أو كهف من كهوف الجبال لم يعاشر إلا بعض من يقوم بواجب غذائه ولباسه لم يشاهد سماء بزواهر نجومها و كواكبها، والبازغ من قمرها وشمسها، ولم يمكث في مجتمع إنساني بأفراده الجمة وبلاده الوسيعة، واختلاف أفكاره، وتشتت مقاصده ومأربه، وأنواع أديانه ومذاهبه، ثم ساقه الاتفاق أن دخل في واحد من المجتمعات العظيمة، وشاهد أمورا عجيبة لا عهد له بها من أجرام سماوية، وأقطار أرضية، وجماعات من الناس عاكفين على مشاغلهم كادحين نحو مأربهم، ومقاصدهم لا يصرفهم عن ذلك صارف بين متحرك وساكن، وعامل ومعمول له، وخادم، ومخدوم، وآمر ومأمور، ورئيس ومرؤوس منكب على الكسب والعمل، ومتزهد متعبد يعبد الاله.
فبهته عجيب ما يراه واستغرقه غريب ما يشاهده فصار يسأل من أنس به عن شأن الواحد بعد الواحد مما اجتذبت إليه نفسه، ووقع عليه بصره، وكثر منه إعجابه نظير ما نراه من حال الصبى إذا نظر إلى جو السماء الوسيعة بمصابيحها المضيئة وزواهرها اللامعة، وعقود كواكبها المنثورة في حالة مطمئنة نراه يسأل أمة: ما هذه التي أشاهدها وأمتلئ من حبها والاعجاب بها؟ من الذي علقها هناك من الذي نورها؟ من الذي صنعها؟.
غير أن الذي لا نرتاب فيه أن هذا الانسان إنما يبدأ في سؤاله من حقائق الأشياء التي يشاهدها ويتعجب منها بالذي يقرب مما كان يعرفها في حال التوحش والانعزال عن المجتمع وإنما يسأل عن المقاصد والغايات التي لا يقع عليها الحواس.
وذلك لان الانسان إنما يستعلم حال المجهولات بما عنده من مواد العلم الأولية فلا ينتقل من المجهولات إلا إلى ما يناسب بعض ما عنده من المعلومات، وهذا أمر ظاهر