الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٦٤
وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير. ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون. اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون. إن المصدقين
____________________
(وغرتكم الأماني) طوال الآمال والطمع في امتداد الأعمار (حتى جاء أمر الله) وهو الموت (وغركم بالله الغرور) وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم. وقرئ الغرور بالضم (فدية) ما يفتدى به (هي مولاكم) قيل هي أولى بكم، وأنشد قول لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه * مولى المخافة خلفها وأمامها وحقيقة مولاكم محراكم ومقمنكم: أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم: أي مكان لقول القائل إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم: أي لا ناصر لكم غيرها، والمراد نفى الناصر على البتات ونحوه قولهم أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع، ومنه قوله تعالى - يغاثوا بماء كالمهل - وقيل تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار (ألم يأن) من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه: أي وقته. وقرئ ألم يئن من آن يئين بمعنى أنى يأنى وألما يأن. قيل كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت.
وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما:
إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضي الله عنه: أما والله لقد استبطأهم وهم يقرءون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
وعن أبي بكر رضي الله عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وقرئ نزل ونزل وأنزل (ولا يكونوا) عطف على تخشع، وقرئ بالتاء على الالتفات. ويجوز أن يكون نهيا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أن بني إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. فإن قلت:
ما معنى لذكر الله وما نزل من الحق؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق القرآن لأنه جامع للأمرين للذكر والموعظة وأنه حق نازل من السماء، وأن يراد خشوعها إذا ذكر الله وإذا تلى القرآن كقوله تعالى - إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا - أراد بالأمد الأجل كقوله إذا انتهى أمده. وقرئ الأمد:
أي الوقت الأطول (وكثير منهم فاسقون) خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين (اعلموا أن الله يحيى الأرض بعد موتها) قيل هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب وأنه يحييها كما يحيى الغيث الأرض (المصدقين) المتصدقين، وقرئ على الأصل والمصدقين من صدق وهم الذين صدقوا الله ورسوله يعنى المؤمنين. فإن قلت:
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»