الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ٤٤
والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان. والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنحل ذات الأكمام
____________________
المكلفين في انقياده. فإن قلت: كيف اتصلت الجملتان بالرحمن؟ قلت: استغنى فيهما عن الوصل اللفظي بالوصل المعنوي لما علم أن الحسبان حسبانه والسجود له لا غيره، كأنه قيل الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له. فإن قلت: كيف أخل بالعاطف في الجمل الأول ثم جئ به بعد؟ قلت: بكت بتلك الجمل الأول واردة على سنن التعديد ليكون كل واحدة من الجمل مستقلة في تقريع الذين أنكروا الرحمن وآلاءه. كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف. فإن قلت: أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟
قلت: إن الشمس والقمر سماويان والنجم والشجر أرضيان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل، وأن السماء والأرض لا تزالان تذكران قرينتين وإن جرى الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله فهو مناسب لسجود النجم والشجر، وقيل علم القرآن جعله علامة وآية. وعن ابن عباس رضي الله عنه: الإنسان آدم، وعنه أيضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد: النجوم نجوم السماء (والسماء رفعها) خلقها مرفوعة مسموكة حيث جعلها منشأ أحكامه ومصدر قضاياه ومتنزل أوامره ونواهيه ومسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي على أنبياءه، ونبه بذلك على كبرياء شأنه وملكه وسلطانه (ووضع الميزان) وفى قراءة عبد الله وخفض الميزان وأراد به كل ما توزن به الأشياء وتعرف مقاديرها من ميزان وقرسطون ومكيال ومقياس: أي خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخدهم وإعطائهم (ألا تطغوا) لئلا تطغوا أو هي أن المفسرة. وقرأ عبد الله لا تطغوا بغير أن على إرادة القول (وأقيموا الوزن بالقسط) وقوموا وزنكم بالعدول (ولا تخسروا الميزان) ولا تنقصوه، أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان، وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه. وقرئ والسماء بالرفع ولا تخسروا بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها، يقال خسر الميزان يخسره ويخسره، وأما الفتح فعلى أن الأصل ولا تخسروا في الميزان فحذف الجار وأوصل الفعل (وضعها) خفضها مدحوة على الماء (للأنام) للخلق وهو كل ما على ظهر الأرض من دابة. وعن الحسن: الإنس والجن فهي كالمهاد لهم يتصرفون فوقها (فاكهة) ضروب مما يتفكه به، و (الأكمام) كل ما يكم: أي يغطى من ليفة وسعفة وكفراة وكله منتفع به كما ينفع بالمكوم من ثمره وجماره وجذوعه. وقيل الأكمام أوعية التمر، الواحد كم
(٤٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 ... » »»