الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٤ - الصفحة ١١٣
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير. خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير. يعلم ما في
____________________
ملك غيره فتسليط منه واسترعاء وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) يعنى فمنكم آت بالكفر وفاعل له، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له كقوله تعالى - وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون - والدليل عليه قوله تعالى (والله بما تعملون بصير) أي عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من عملكم، والمعنى: هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح وتكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين، فما فعلتم مع تمكنكم بل تشعبتم شعبا وتفرقتم أمما فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقدم الكفر لأنه الأغلب عليهم والأكثر فيهم. وقيل هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ومنكم مؤمن به. فإن قلت: نعم إن العباد هم الفاعلون للكفر ولكن قد سبق في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر ولم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم، وهل خلق القبيح وخلق فاعل القبيح إلا واحد، وهل مثله إلا مثل من وهب سيفا باترا لمن شهر بقطع السبيل وقتل النفس المحرمة فقتل به مؤمنا، أما يطبق العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدق في فروته كما يذمون القاتل بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد؟ قلت: قد علمنا أن الله حكيم عالم بقبح القبيح عالم بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كلها حسنة، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنا وأن يكون له وجه حسن، وخفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها (بالحق) بالغرض الصحيح والحكمة البالغة وهو أن جعلها مقار المكلفين ليعملوا فيجازيهم (وصوركم فأحسن صوركم) وقرئ صوركم بالكسر لتشكروا. وإليه مصيركم فجزاؤكم على الشكر والتفريط فيه. فإن قلت: كيف أحسن صورهم؟ قلت: جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب كما قال عز وجل - في أحسن تقويم - فإن قلت: فكم من دميم مشوه
(١١٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 119 ... » »»