الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٨٨
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا. يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا. وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا.
____________________
قلت: ما معنى (في أنفسهم)؟ قلت: معناه أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه كما قال - إن في صدورهم الأكبر ما هم ببالغيه (وعتوا) وتجاوزوا الحد في الظلم، يقال عتا علينا فلان وقد وصف العتو بالكبير فبالغ في إفراطه: يعنى أنهم لم يجسروا على هذا القول العظيم إلا لانهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو، واللام جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية، وفى أسلوبها قول القائل:
وجارة جساس أبأنا بنابها * كليبا غلت ناب كليب بواؤها وفى فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب: ألا ترى أن المعنى: ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوهم وما أغلى نابا بواؤها كليب (يوم يرون) منصوب بأحد شيئين: إما بما دل عليه لا بشرى: أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها ويومئذ للتكرير، وإما بإضمار أذكر: أي أذكر يوم يرون الملائكة، ثم قال (لا بشرى يومئذ للمجرمين) وقوله للمجرمين إما ظاهر في موضع ضمير، وإما لأنه عام فقد تناولهم بعمومه (حجرا محجورا) ذكره سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك الله وعمرك الله، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه: ويقول الرجل للرجل أتفعل كذا وكذا فيقول حجرا، وهى من حجره إذا منعه، لان المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه، فكان المعنى: أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا، ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد كما كان قعدك وعمرك كذلك، وأنشدت لبعض الرجاز:
قالت وفيها حيدة وذعر * عوذ بربى منكم وحجر فإن قلت: فإذا قد ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بمحجورا. قلت: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ذيل ذائل والذيل الهوان وموت مائت. والمعنى في الآية أنهم يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه، وهم إذا رأوهم عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لانهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون، وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور وشدة النازلة. وقيل هو من قول الملائكة ومعناه حراما محرما عليكم الغفران والجنة والبشرى: أي جعل الله ذلك حراما عليكم. ليس ههنا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولكن مثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها ومزقها كل ممزق ولم يترك لها أثرا ولا عثيرا. والهباء: ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وفى أمثالهم أقل من الهباء (منثورا) صفة للهباء، شبهه بالهباء في قلته وحقارته عنده وأنه لا ينتفع به، ثم
(٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 82 83 84 86 87 88 89 90 91 92 93 ... » »»