الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٨٤
وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا. قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا. لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسؤولا. ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فنقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل.
____________________
وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. ويجوز أن يراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة، ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السماوات والأرض، وجاء في الأحاديث " أن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا " ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق والارهاق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيره أنه يضيق علهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع. وقيل يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد. والثبور:
الهلاك، ودعاؤه أن يقال وا ثبوراه: أي تعال يا ثبور فهذا حينك وزمانك (لا تدعوا) أي يقال لهم ذلك، أو هم أحقاء بأن يقال لهم وإن لم يكن ثمة قول. ومعنى (وادعوا ثبورا كثيرا) أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير، إما لان العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لانهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم. الراجع إلى الموصولين محذوف: يعنى وعدها المتقون وما يشاؤونه، وإنما قيل كانت لان ما وعده الله وحده فهو في تحققه كأنه قد كان، أو كان مكتوبا في اللوح قبل أن برأهم بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم. فإن قلت: ما معنى قوله (كانت لهم جزاء مصيرا)؟ قلت: هو كقوله - نعم الثواب وحسنت مرتفقا - فمدح الثواب ومكانه كما قال - بئس الشراب وساءت مرتفقا - فذم العقاب ومكانه، لان النعيم لا يتم للمتنعم إلا بطيب المكان وسعته وموافقته للمراد والشهوة وأن لا تنغص، وكذلك العقاب يتضاعف بغثاثة الموضع وضيقه وظلمته وجمعه لأسباب الاجتواء والكراهة، فلذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء. والضمير في (كان) لما يشاءون. والوعد الموعود: أي كان ذلك موعودا واجبا على ربك إنجازه حقيقا أن يسئل ويطلب لأنه جزاء وأجر مستحق. وقيل قد سأله الناس والملائكة في دعواتهم - ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك - ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة - ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم - يحشرهم فيقول كلاهما بالنون والياء.
وقرئ يحشرهم بكسر الشين (وما يعبدون) يريد المعبودين من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله. ويجوز أن يكون عاما لهم جميعا. فإن قلت: كيف صح استعمال ما في العقلاء قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم بدليل قولك: إذا رأيت شبحا من بعيد ما هو؟ فإذا قيل لك إنسان قلت حينئذ من هو؟ ويدلك قولهم من لما يعقل أو أريد به الوصف كأنه قيل ومعبوديهم ألا تراك تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعنى أطويل أم قصير، أفقيه أم طبيب؟ فإن قلت: ما فائدة أنتم وهم، وهلا قيل أظللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل؟ قلت: ليس
(٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 79 80 81 82 83 84 86 87 88 89 90 ... » »»