الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٨٢
وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا. قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما. وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا.
____________________
إليه (أساطير الأولين) ما سطره المتقدمون من نحو أحاديث رستم واسفنديار جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة (اكتتبها) كتبها لنفسه وأخذها كما تقول استكب الماء واصطبه: إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه. وقرئ اكتتبها على البناء للمفعول، والمعنى: اكتتبها كاتب له لأنه كان أميا لا يكتب بيده، وذلك من تمام إعجازه، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب كقوله - واختار موسى قومه - ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا، وبقى ضمير الأساطير على حاله فصار اكتتبها كما ترى.
فإن قلت: كيف قيل (اكتتبها فهي تملى عليه) وإنما يقال أمليت عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أراد اكتتابها أو طلبه فهي تملى عليه، أو كتبت له وهو أمي فهي تملى عليه: أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها لان صورة الالقاء على الحافظ كصورة الالقاء على الكاتب. وعن الحسن أنه قول الله سبحانه يكذبهم، وإنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الانكار، ووجهه أن يكن نحو قوله:
أفرح أن أرزأ الكرام وأن * أورث ذودا شصائصا نبلا وحق الحسن أن يقف على الأولين (بكرة وأصيلا) أي دائما أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم: أي يعلم كل سر خفى في السماوات والأرض، ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم مع علمكم أن ما تقولونه باطل وزور، وكذلك باطن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبراءته مما بهتونه به، وهو يجازيكم ويجازيه على ما علم منكم وعلم منه. فإن قلت: كيف طابق قوله (إنه كان غفورا رحيما) هذا المعنى؟ قلت: لما كان ما تقدمه في معنى الوعيد عقبه بما يدل على القدرة عليه لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، أو هو تنبيه على أنهم استوجبوا بمكابرتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صبا، ولكن صرف ذلك عنهم أنه غفور رحيم يمهل ولا يعاجل. وقعت اللام في المصحف مفصولة عن هذا خارجة عن أوضاع الخط العربي وخط المصحف سنة لاتغير، وفي هذا استهانة تصغير لشأنه وتسميته بالرسول سخرية منهم وطنز كأنهم قالوا: ما لهذا الزاعم أنه رسول، ونحوه قول فرعون - إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون أي إن صح أنه رسول الله فما باله حاله مثل حالنا (يأكل الطعام) كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتزدد:
يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا متسغنيا عن الاكل والتعيش. ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الانذار والتخويف. ثم نزلوا أيضا فقالوا: وإن لم يكن مرفودا بملك فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش. ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما الدهاقين والمياسير، أو يأكلون هم من ذلك البستان فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم وأراد بالظالمين إياهم بأعيانهم وضع الظاهر موضع المضمر ليسجل عليهم بالظلم فيما قالوا، وقرئ فيكون بالرفع أو يكون له جنة بالياء ونأكل بالنون. فإن قلت: ما وجها الرفع والنصب في فيكون. قلت: النصب لأنه جواب
(٨٢)
مفاتيح البحث: الطعام (1)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 77 78 79 80 81 82 83 84 86 87 88 ... » »»