الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٣ - الصفحة ٣٢٠
* بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين * وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون * يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون
____________________
الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام، ويجوز أن يتمنى ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة، لان في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور والأول أوجه. وقرئ المكرمين. فإن قلت: " ما " في قوله تعالى (بما غفر لي ربي) أي الماءات هي؟ قلت: المصدرية أو الموصولة: أي بالذي غفره لي من الذنوب، ويحتمل أن تكون استفهامية: يعني بأي شئ غفر لي ربي، يريد به ما كان منه معهم من المصابرة لاعزاز الدين حتى قتل، إلا أن قولك بم غفر لي بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا، يقال قد علمت بما صنعت هذا؟ أي بأي شئ صنعت وبم صنعت. المعنى: أن الله كفى أمرهم نصيحة ملك ولم ينزل لاهلاكهم جندا من جنود السماء كما فعل يوم بدر والخندق. فإن قلت: وما معنى قوله (وما كنا منزلين)؟ قلت: معناه وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء وذلك لان الله تعالى أجرى هلاك كل قوم على بعض الوجوه دون البعض، وما ذلك إلا بناء على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة، ألا ترى إلى قوله تعالى - فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا - فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق قال تعالى - فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها - بألف من الملائكة مردفين - بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين - بخمسة آلاف من الملائكة مسومين؟ قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة منه، ولكن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شئ على كبار الأنبياء وأولى العزم من الرسل فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة والاعتزاز ما لم يوله أحدا، فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء وكأنه أشار بقوله - وما أنزلنا - وما كنا منزلين - إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك وما كنا نفعله بغيرك (إن كانت إلا صيحة واحدة) إن كانت الآخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. وقرأ أبو جعفر المدني بالرفع على كان التامة: أي ما وقعت إلا صيحة، والقياس والاستعمال على تذكير الفعل، لان المعنى: ما وقع شئ إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ، وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثلها قراءة الحسن - فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم - وبيت ذي الرمة:
* وما بقيت إلا الضلوع الجراشع * وقرأ ابن مسعود: إلا زقية واحدة من زقا الطائر يزقو ويزقى إذا صاح، ومنه المثل: أثقل من الزواقي (خامدون) خمدوا كما تخمد النار فتعود رمادا كما قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه * يحور رمادا بعد إذ هو ساطع (يا حسرة على العباد) نداء للحسرة عليهم كأنما قيل لها: تعالى يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين. ويجوز أن يكون من الله تعالى على سبيل الاستعارة
(٣٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 315 316 317 318 319 320 321 322 323 324 325 ... » »»