الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٤١
ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى. قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى. فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا
____________________
أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها. أراد بخلقهم من الأرض خلق أصلهم وهو آدم عليه السلام منها، وقيل إن الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه فيبددها على النطقة فيخلق من التراب والنطفة معا. وأراد بإخراجهم منها أن يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر - يوم يخرجون من الأجداث سراعا - عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم حيث جعلها لهم فراشا ومهادا يتقلبون عليها، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاءوا، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم وهى أصلهم الذي منه تفرعوا وأمهم التي منها ولدوا، ثم هي كفاتهم إذا ماتوا ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تمسحوا بالأرض فإنها بكم برة " (أريناه) بصرناه أو عرفناه صحتها ويقناه بها وإنما كذب لظلمه كقوله تعالى - وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا - وقوله تعالى - لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر - وفى قوله تعالى (آياتنا كلها) وجهان: أحدهما أن يحذى بهذا التعريف الإضافي حذو التعريف باللام لو قيل الآيات كلها: أعني أنها كانت لا تعطى إلا تعريف العهد والإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي تسع الآيات المختصة بموسى عليه السلام العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل، والثاني أن يكون موسى قد أراه آياته وعدد عليه ما أوتيه غيره من الأنبياء من آياتهم ومعجزاتهم، وهو نبي صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به فكذبها جميعا (وأبى) أن يقبل شيئا عنها. وقيل فكذب الآيات وأبى قبول الحق. يلوح من جيب قوله (أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك) أن فرائصه كانت ترعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت، وأن مثله لا يخذل ولا يقل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة. وقوله بسحرك تعلل وتحير، وإلا فكيف يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر. لا يخلو الموعد في قوله (فاجعل بيننا وبينك موعدا) من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله تعالى - موعدكم يوم الزينة - مطابق له لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفا، وأن يعضل عليك ناصب مكانا وإن جعلته مكانا لقوله تعالى - مكانا سوى - لزمك أيضا أن توقع الإخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله - موعدكم يوم الزينة -. وقراءة الحسن غير مطابقة له مكانا وزمانا جميعا لأنه قرأ يوم الزينة بالنصب فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف: أي مكان موعد ويجعل الضمير في تخلفه للموعد ومكانا بدل من المكان المحذوف.
فإن قلت: فكيف طابقه قوله موعدكم يوم الزينة ولا بد من أن تجعله زمانا والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا، لأنه لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم فبذكر الزمان علم المكان. وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى:
إنجاز وعدكم وعدكم يوم الزينة وطباق هذا أيضا من طريق المعنى. ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى:
(٥٤١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 536 537 538 539 540 541 542 543 544 545 546 ... » »»