الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٣٦
إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى.
إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى. أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عيني.
____________________
وفى مصحف ابن مسعود أخي واشدد، وعن أبي بن كعب أشركه في أمري واشدد به أزرى. ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل أخي مرفوعا على الابتداء واشدد به خبره ويوقف على هارون. الأزر القوة وأزره قواه:
أي اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك فإن التعاون لأنه مهيج الرغبات يتزايد به الخير ويتكاثر (إنك كنت بنا بصيرا) أي عالما بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا وأن هارون نعم المعين والشاد لعضدي بأنه أكبر منى سنا أفصح لسانا. السؤول: الطلبة فعل بمعنى مفعول كقولك خبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول. الوحي إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله تعالى - وإذا أوحيت إلى الحواريين - أو يبعث إليها ملكا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم أو يريها ذلك في المنام فتتنبه عليه أو يلهمها كقوله تعالى - وأوحى ربك إلى النحل - أي أوحينا إليها أمرا لا سبيل إلى التوصل إليه ولا إلى العلم به إلا بالوحي وفيه مصلحة دينية، فوجب أن يوحى ولا يخل به: أي هو مما يوحى لا محالة وهو أمر عظيم مثله يحق بأن يوحى (أن) هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول. القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى - وقذف في قلوبهم الرعب - وكذلك الرمي قال * غلام رماه الله بالحسن يافعا * أي حصل فيه الحسن ووضعه فيه، والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدى إليه من تنافر النظم. فإن قلت:
المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل. قلت: ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر. لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وألقاه إليه سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل (فليلقه اليم بالساحل) روى أنها جعلت في التابوت قطنا محلوجا فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينا هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت، فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه. وظاهر اللفظ أن البحر ألقاه بساحله وهو شاطئه لأن الماء يسحله: أي يقشره وقذف به ثمة فالتقط من الساحل، إلا أن يكون قد ألقاه اليم بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى حيث البركة (منى) لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أنى أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة: أي محبة حاصلة أو واقعة منى قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك. روى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفى عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه (على عيني) لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك كما
(٥٣٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 531 532 533 534 535 536 537 538 539 540 541 ... » »»