الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥٠٥
دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا. قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا. قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا. قال كذلك قال ربك هو على هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا.
____________________
الأحيان مشتملة على ما فيها، وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه.
والانتباذ: الاعتزال والانفراد، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس.
وقيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشئ يسترها وكان موضعها المسجد، فإذا حاضت نحولت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينا هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضئ الوجه جعد الشعر سوى الخلق لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا، أو حسن الصورة مستوى الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة فالفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلى رأسها، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك. وقيل قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل إن النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح جبريل لأن الدين يحيا به ويوحيه أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا كما تقول لحبيبك أنت روحي. وقرأ أبو حياة روحنا بالفتح لأنه سبب لما فيه روح العباد وإصابة الروح عند الله الذي هو عدة المقربين في قوله - فأما إن كان من المقربين فروح وريحان - أو لأنه من المقربين وهم الموعودون بالروح: أي مقربنا وذا روحنا. أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كقوله تعالى - بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين - أي إنما أنا رسول من استعذت به (لأهب لك) لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع، وفى بعض المصاحف - إنما أنا رسول ربك - أمرني أن أهب لك، أو هي حكاية لقول الله تعالى. جعل المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه كقوله تعالى - من قبل أن تمسوهن أو لمستم النساء - والزنى ليس كذلك، إنما يقال فيه فجربها وخبث بها وما أشبه ذلك وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغي: الفاجرة التي تبغى الرجال، وهى فعول عند المبرد بغوي فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جنى في كتاب التمام: هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغو كما قيل فلان نهوا عن المنكر (ولنجعله أية) تعليل معللة محذوف: أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك: أو هو معطوف على تعليل مضمر: أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ونحوه - وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت - وقوله - وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه - (مقتضيا) مقدرا مسطورا في اللوح لابد لك من جريه عليك، أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى لكونه آية ورحمة، والمراد بالآية العبرة والبرهان على قدرة الله، وبالرحمة الشرائع والألطاف، وما كان سببا في قوة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح فهو
(٥٠٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 500 501 502 503 504 505 506 507 508 509 510 ... » »»