الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٥١٦
نورث من عبادنا من كان تقيا. وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا. رب السماوات والأرض وما بينهما
____________________
وبكرة وعشيا تريد الديمومة ولا تقصد الوقتين المعلومين (نورث) وقرئ نورث استعارة: أي نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهى الجنة، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى. وقيل أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا (وما نتنزل) حكاية قول جبريل صلوات الله عليه حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى أنه احتبس أربعين يوما، وقيل خمسة عشر يوما وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب ورجى أن يوحى إليه فيه فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فلما نزل جبريل عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك، قال: إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست، وأنزل الله سبحانه هذه الآية وسورة الضحى. والتنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق كقوله:
فلست لإنسي ولكن لملأك * تنزل من جو السماء يصوب لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل وبمعنى التدريج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل، والمراد أن نزولنا في الأحايين وقتا غب وقت ليس إلا بأمر الله وعلى ما يراه صوابا وحكمة وله ما قدامنا (وما خلفنا) من الجهات والأماكن (وما بين ذلك) وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ومكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون وما يحدث ويتجدد من الأحوال لا يجوز عليه الغفلة والنسيان، فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا رأى ذلك مصلحة وحكمة وأطلق لنا الإذن فيه. وقيل ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك النفختين وهو أربعون سنة. وقيل ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها. وقيل ما قبل وجودنا وما بعد فنائنا. وقيل الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض. والمعنى: أنه المحيط بكل شئ لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة فكيف نقدم على فعل نحدثه إلا صادرا عما توجبه حكمته ويأمرنا به ويأذن لنا فيه. وقيل معنى (وما كان ربك نسيا) وما كان تاركا لك كقوله تعالى - ما ودعك ربك وما قلا - أي ما كان امتناع النزول إلا لامتناع الأمر به، وأما احتباس الوحي فلم يكن عن ترك الله لك وتوديعه إياك ولكن لتوقفه على المصلحة. وقيل هي حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة: أي وما ننزل الجنة إلا بأن من الله علينا بثواب أعمالنا وأمرنا بدخولها، وهو المالك لرقاب الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة، اللاطف في أعمال الخير والموفق لها والمجازى عليها، ثم قال الله تعالى تقريرا لقولهم: وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين غافلا عما يجب أن يثابوا به، وكيف بحوز النسيان والغفلة على ذي ملكوت السماء والأرض وما بينهما. ثم قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: فحين عرفته على هذه الصفة فاقبل على العمل واعبده يثبك كما أثاب غيرك من المتقين. وقرأ الأعرج رضي الله عنه: وما يتنزل بالياء على الحكاية عن جبريل عليه السلام والضمير للوحى. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: إلا بقول ربك. يجب أن يكون الخلاف في النسي مثله في البغى (رب السماوات والأرض) بدل من ربك، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هو
(٥١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 511 512 513 514 515 516 517 518 519 520 521 ... » »»