الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل - الزمخشري - ج ٢ - الصفحة ٤٩٠
أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا. وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا. فلما بلغا مجمع بينهما
____________________
قرى الأولين من ثمود وقوم لوط وغيرهم أشار لهم إليها ليعتبروا، تلك مبتدأ والقرى صفته، لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس، و (أهلكناهم) خبر، ويجوز أن يكون تلك القرى نصبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير، والمعنى: وتلك أصحاب القرى أهلكناهم (لما ظلموا) مثل ظلم أهل مكة (وجعلنا لمهلكهم موعدا) وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته. وقرئ لمهلكهم بفتح الميم واللام مفتوحة أو مكسورة: أي لهلاكهم أو وقت هلاكهم والموعد وقت أو مصدر (لفتاه لعبده وفى الحديث " ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتى ". وقيل هو يوشع بن نون وإنما قيل فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه، وقيل كان يأخذ منه العلم. فإن قلت: (لا أبرح) إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة لا على السفر، وإن كان بمعنى لا أزال فلا بد من الخبر. قلت: هو بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معا يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله (حتى أبلغ مجمع البحرين) غاية مضروبة تستدعى ما هي غاية له، فلابد أن يكون المعنى: لا أبرح أسير - حتى أبلغ مجمع البحرين - ووجه آخر وهو أن يكون المعنى: لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف. ويجوز أن يكون المعنى: لا أبرح ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب، ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان. ومجمع البحرين: المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الحضر عليهما السلام وهو ملتقى بحرى فارس والروم مما يلي المشرق، وقيل طنجة، وقيل إفريقية. ومن بدع التفاسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما كانا بحرين في العلم. وقرئ مجمع بكسر الميم وهى في الشذوذ من يفعل كالمشرق والمطلع من يفعل (أو أمضى حقبا) أو أسير زمانا طويلا، والحقب ثمانون سنة. وروى أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة، فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله وقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له قد علمنا هذا فأي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله، فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقى إلى أيام موسى. وقيل إن موسى سأل ربه: أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى، قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغى علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى، فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فأدللني عليه، قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟
قال: على الساحل عند الصخرة، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتب فحيث فقدته فهو هناك، فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبر فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى، فقال: وأنى بأرضنا السلام، فعرفه نفسه فقال: يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت
(٤٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 485 486 487 488 489 490 491 492 493 494 495 ... » »»